كتّاب

فى موكب الملك:…


فى موكب الملك:
فى مثل هذه الأيام منذ سنوات، خرج الآلاف من المصريين من مختلف الأجيال، شباب وشيوخ وأطفال، رجال ونساء، لتحية ملكهم العظيم، الذى حفظ الناموس وأقام العدل والميزان وحكم الدنيا وشغل الناس، والذى لا شك فيه أن هؤلاء المصريين الذين خرجوا، لمصاحبة موكب ملكهم فعلوا ذلك بإرادتهم الحرة ودون تخطيط أو اتفاق مسبق،
وزحفوا من مختلف أحياء القاهرة والجيزة وحواريها، لم تخرجهم رشوة انتخابية مبتذلة – ربع كباب وعشرين جنيه مثلا – ولم يخرجهم تهديد صاحب المصانع التى يعملون فيها، أو الحزب الوطنى ولجانه التنظيمية، وإنما خرجوا حبا وكرامة، ومن تلقاء أنفسهم، لرؤية الملك المحبوب، وراحوا يصاحبون الملك وموكبه وهو يتهادى ببطء، من ميدان محطة رمسيس إلى أول الفجالة، إلى شارع الجمهورية فشارع ٢٦ يوليو فشارع طلعت حرب ومنه إلى كورنيش النيل حتى أول المعادى،
وصعد الموكب الذى تحيط به الجموع من كل جانب الكوبرى الدائرى لينزل بجوار هضبة الأهرام، ولم تقتصر حفاوة المصريين بملكهم على الجماهير الغفيرة التى تصاحب الموكب المهيب، بل راحت كاميرات التليفزيون والفضائيات ووكالات الأنباء العالمية، تنقل الحدث الكبير للقابعين فى بيوتهم أمام شاشات التليفزيون، فى أقطار الأرض الأربعة،ومنعتنى ظروفى الصحية من السهر للصباح خارج المنزل فرحت أنتظر تليفونات بنتاى كل عدة دقائق، حتى استقر الملك أخيرا فى أول طريق الفيوم، أمام المكان الذى تقرر أن يكون مقرا للمتحف المصرى الجديد، كان ذلك يوم الخامس والعشرين من أغسطس، سنة ٢٠٠٦.
إنه الملك المصرى العظيم رمسيس الثانى، ابن سيتى الأول، أعظم ملوك الأسرة التاسعة عشرة، بل أعظم الملوك الفراعنة وأكثرهم عمرانا، حكم البلاد لمدة سبعة وستين عاما شملت معظم القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وقلما توجد مدينة مصرية من أبوسمبل جنوبا إلى تانيس شمالا (بجوار دمياط الحالية) لم يبن لنفسه فيها معبداً، أو أكثر، كما أضاف إضافات شامخة للمعابد القومية الكبرى مثل: الكرنك والأقصر وأبيدوس وأقام فيها التماثيل الهائلة والمسلات العظيمة، فضلا عن معبده الجنازى العظيم الرمسيوم وبه “محطما للأسف” أضخم التماثيل القديمة “رمسيس جالسا” بارتفاع عشرين مترا ووزنه ألف طن من الجرانيت الأحمر.
تولى الملك بعد أن انتهت الأسرة الثامنة عشرة التى شهدت فى آخر عهدها فتنة طائفية وحروبا دينية بسبب ثورة إخناتون الدينية، واستغل الأعداء المتربصون فرصة الفوضى والاضطراب، فهاجموا مصر فتصدى لهم الملك رمسيس الثانى وطردهم وطاردهم وعلى ضفاف نهر الليطانى فى الشام دارت معركته الفاصلة (قادش)،التى أظهر فيها من صنوف البسالة وبراعة التخطيط ما أذهل الأعداء، فتقهقروا وواصل ضرب ظهورهم حتى أبواب الأناضول، فوقّعوا معه معاهدة سلام وعاد منتصرا ومتوجا بأكاليل الغار، ونعم الناس فى عهده بالسلامة والرخاء،
اللذين يوفرهما الأمن، وراح هو ينظم الإدارة ويرعى الكهنة والمعابد، ويراقب كبار الموظفين وحكام الأقاليم، ويقمع اللصوص، ويحفر الترع وينظم الرى فازدهرت فى عهده الحياة ازدهارا قلما نجده فى عهد ملك فرعونى آخر، ومن هنا، فقد حظى بحب الناس واحترامهم وحفاوتهم باسمه الخالد،
ومات عن عمر يناهز التسعين، بعد أن ملأ الأرض بالعدل، واكتشف العلماء تمثاله الشهير على باب أحد معابده التى اندثرت فى قرية ميت رهينة، ونقلته حكومة الثورة سنة ١٩٥٤ إلى ميدان باب الحديد، رمسيس فيما بعد، فظل هناك إلى ليلتنا تلك، وعثر «ماسبيرو» على موميائه نفسها فى خبيئة الدير البحرى سنة ١٨٨١ ونقلها للمتحف المصرى، وقد أصيبت المومياء ببعض الفطريات فتقرر سفرها للعلاج فى باريس سنة ١٩٧٦، وجاءت طائرة خاصة لنقل الملك العظيم،
وبعد إقلاعها من القاهرة، ووصولها إلى باريس أصرت الطبيبة رئيس الفريق الطبى أن تدور الطائرة فوق ميدان الكونكورد الذى يفخر بأن تتوسطه مسلة رائعة لرمسيس الثانى – والتى أهداها محمد على لشارل العاشر ومازالت رفيقتها تنتصب أمام معبد الأقصر – أصرت رئيسة الفريق على أن تدور الطائرة حول ميدان الكونكورد ومسلته الشهيرة ليرى رمسيس الثانى بنفسه إلى أين وصلت أمجاده الخالدة بعد ثلاثة آلاف سنة من موته، ونزل رمسيس الثانى من الطائرة ليكون فى استقباله أكبر بعثات الشرف ومعها الرئيس الفرنسى.
ومازال الناس يتذكرون تلك الليلة الباهرة التى عاشوها حتى الصباح… فى موكب الملك.


يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

تعليق واحد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى