كتّاب

ليلة سيدى صلاح (2 من 3)…


ليلة سيدى صلاح (2 من 3)
كان جامع سيدى صلاح وضريحه أهليا، يرعاه وينفق عليه سكان الدرب، يتولى أمره “عم عبد السميع ناشى” وهوواحد من شيوخ الدرب المشهود لهم بالشرف والأمانه، يحتفظ بأموال سيدى صلاح التى يأخذها من الموظفين فى المواسم والمناسبات الدينية “بالجودة”– أى بدون تحديد قيمة- ومن الفلاحين وأصحاب الطين، مع مواسم الحصاد فينفق منها على الجامع والمقام بهدوء، ويعطى عم “أبو السعود” خادم الجامع والضريح منها ثلاث جنيهات شهريا، وقد يتطلب الأمر إصلاحا عاجلا فيسر عم عبد السميع عقب صلاة جمعة لكبار رجال الدرب بأن حصير الجامع قد بلى واهترأ وينبغى أن يتجدد، أو أن بياض الحوائط قد حال وبهت، أو أن حنفيات الميضأة فى حاجة إلى تغيير وفى أيام تتم المقايسة وتتوزع تكاليفها على أهل الدرب، وقد يقوم أحد الكرام والأثرياء بدفع مبلغ كبير فيتخفف الناس من عبء كبير أو تؤمن نفقات الجامع شهورا قادمة، ومن تلك النفقات السنوية أجر من يحيي ليلة سيدى صلاح، يجتمع فى بيتنا وفى ضيافة أبى نحو عشرة من كبار رجال الدرب ليقع اختيارهم على من يحيى الليلة السنوية، فيقول قائل: إيه رأيكم فى الشيخ سالم بتاع سبك الضحاك، ليرد أحدهم، ياراجل دا مابيصبرش على حلقة الذكر ساعة ويقضى الليلة بعد كده حكايات ونكت وكلام فارغ، .. طيب إيه رأيكم فى الشيخ فوزى بتاع أبو سنيطة، فيرد أحدهم: أى نعم هو صوته حلو بس طول الليلة وعنيه بتضرب لفوق يبصبص للستات اللي فى الشبابيك واللى على الأسطح، أما الشيخ عبد الله من مناوهلة فحشاش لازم الشيشة بالحشيش تفضل جنبه طول الليل، والشيخ فرغلى من سنتريس دا بيجيب معاه تلات نسوان يفقروا مع الناس ومانعرفش بيعمل بيهم إيه؟ ويحتد النقاش وترتفع وتختلط الأصوات حتى يقول قائل: إيه رأيكم فى الشيخ كرم بتاع أشمون فيتفقوا جميعا على مقدرته وروعته وجمال صوته ولكنه يتقاضى مائة جنيه كاملة، فيتكفل أحد الحاضرين بنصف أو ربع المبلغ ويتوزع الباقى على الموجودين وبقية شيوخ الدرب.
لم أشهد فى حياتى ولم أسمع عن جدل حاد ولا خلافا حول نفقات الجامع، كان الناس بسطاء وطيبين ومحبين.
وفى ضحى اليوم التالى للعيد الكبير نبتهج ونلتف حول “أبو السعود” ونحن نراه وهو يحفر فى وسط الوسعاية “بالشقرف” فتحة عميقة فى الارض، ثم يأت حاملا عمودا من الخشب كنا نراه عملاقا يمتد لعنان السماء رغم انه لم يكن يتجاوز الخمسة أمتار، ثم يأتى بعدد من جريد النخل ويظل يربطها على اعلى عمود الخشب بالمسامير والحبال، ويرفع العمود بمساعدة بعض شباب الدرب ، حتى ينتصب فى قلب الوسعاية كأنه نخلة عجيبة
وفى اليوم التالى ومنذ الصباح نرى بعض أنواع المراجيح يدفعها أصحابها لتحتل أماكنها فى الوسعاية والشارع أمامها، وتصحبها عربية التنشين على “البمب” بالبندقية الرش، ثم عربات الكبده والفشة والممبار والكشرى والسوبيا وفرش البمب والصواريخ والزمامير والشخاليل، ويجد القراقوز لنفسه دكانا مهجورا، وعلى العصر تكون قد ملأت كل تلك العربات جوانب الوسعاية تاركة قلبها شاغرا لحلقة الذكر، وامامها تعد منصة أو مسرح من بعض الدكك والكنب ليعتليها المنشد وفرقته،
وكانت أمى تعد لليلة مولد سيدى صلاح طعاما مميزا مكونا من كفتة الأرز، والتى تتكون من أرز وبصل وثوم وشبت ومقدونس ولحم، نظل طيلة اليوم السابق نفرمه بمفرمة اللحم اليدوية، وتعده أمى وإخوتى على هيئة أصابع فى حجم صباع اليد، وكبيبات فى حجم البيضة الصغيرة، ثم تقلي فى الزيت قبل أن توضع فى دمعة الطماطم الحمراء، ثم حلة هائلة من الأرز، فيصبح طبق من الكفتة وطبق آخر من الأرز عشاء بسيطا وطيبا معا، إذ يقتضى حق “سيدى صلاح” على أحفاده سكان الدرب أن يفتحوا بيوتهم ويقدمون العشاء للأقارب والضيوف ممن يرغبون حضور ليلة مولده.
ولم يكن نادرا أن نفصل أو نشترى ملابس جديدة ليوم ليلة سيدى صلاح، غير أنه كنا نأخذ من أبى عيدية إضافية خاصة بليلة سيدى صلاح، ننزل لانفاقها فى المراجيح والنشان والقراقوز، حتى وقت المغرب ونجد أبو السعود يفرش قلب الوسعاية بالحصير لإقامة حلقة الذكر، فندخل فى طور جديد من المتعة الموسيقى والغناء والذكر حتى مطلع الفجر… والبقية غدا
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى