كتّاب

‏قبل أيام كتب براهما شيلاني (مفكر سياسي هندي) مقالة حول حروب العالم الجديد. حدد …


‏قبل أيام كتب براهما شيلاني (مفكر سياسي هندي) مقالة حول حروب العالم الجديد. حدد أعداء أميركا الاستراتيجيين في ثلاثة: الصين، روسيا، العالم الإسلامي.

وضعت غزة “العالم الإسلامي” في مواجهة مع أميركا، على مستوى النخب والجماهير. للمرة الثالثة في الألفية الجديدة، ولفلسطين مهابة وجلال، وألم، ليس لأي بقعة أخرى.

أميركا تصير إلى دولة مارقة، كما تخوفت وثيقة دبلوماسية دارت في أروقة البيت الأبيض في الأيام الماضية، ووقع عليها دبلوماسيون متوسطو الرتبة.
مرة أخرى وضعت مصداقيتها على المحك، مستلقية للوبي الصهيوني الفاشي الذي ينقلها من دولة مسؤولة عن صناعة الأمن الدولي إلى كلب هائج يجره “بن غفير” خلفه لينبح من مستوطنات الضفة الغربية.

ينتظر من هذه الدولة، التي أرسلت جنرالاتها ليديروا الحرب على غزة، أن ترعى سلاماً عالميّاً.

تتطور تكنولوجيا السلاح والتجسس وتتصدر أميركا العالم في هذين الحقلين. غير أن العالم يتغير أيضاً على نحو جذري في حقول أخرى، ما يفرض تحديات جسيمة أمام “القوة”. اللوبي الصهيوني، وفي مقدمته الآيباك، هو في نهاية الأمر محفل اقتصادي يشتري البرلمانيين الأميركان كما يشترى المرتزقة، ثم يحرك خيوطهم من وراء الستار. على موقعه الرسمي يكتب: نجح ٩٨% من المرشحين الذين ندعمهم. سبق لأميركا أن اندفعت في مغامرات صهيونية أثرت على شبكات اقتصادية أميركية ضخمة، كالبيغ أويل، أو شركات النفط التي خسرت عقودها في إيران لصالح فكرة غامضة عن “أمن إسرائيل”. تمثل الآيباك سرطانا شرساً داخل الديموقراطية الأميركية، وفقاً لتعبير بوكان، النائب الديموقراطي عن ويسكنسون.

لقد خرجنا من باكس أميركانا، أو الحقبة الأميركية، منذ أدرك أوباما أن بلاده أضعف من أن تواصل حضورها كإمبراطورية، متخذاً سياسته الشهيرة “بناء أمة من الداخل”. في فراغات الإمبراطورية تخلق الفضاء التركي، الممتد حتى وسط آسيا، العالم الصيني المتوغل حتى أفريقيا، والرابطة الروسية التي تبني قواعدها العسكرية على ضفاف شرق المتوسط وغربه! فضلاً عن توسع العالم الفارسي الذي بات يهيمن على ٢٠% من العالم العربي، ويخلق مساحاته شرقاً.

انسحاب أميركا إلى الداخل حدث على إيقاع هزيمتين بالمعنين السياسي والعسكري: العراق وأفغانستان. دخلت أميركا البلدين وهي لا تملك استراتيجية خروج، أرادت استعراض قدرتها على البطش، وخلق فضاء صهيوني للأمن. بقيت عالقة في الحربين إلى أن قررت الفرار. في الأثناء تلك عملت الصين بكفاءة منقطعة النظير على تأكيد نفسها في عالم التقانة والبحث العلمي، وصارت إلى مصنع العالم الذي لا غنى عنه. جاء ترامب وأكمل ما بدأه أوباما، وكاد النيتو أن يكون أول ضحايا البيت الأبيض. هدد ترامب العولمة، ودخل في صراع انتحاري مع الصين دفع ثمنه ملايين الفلاحين في بلاده، ووجدت أوروبا نفسها وحيدة تحت رحمة مصانع الصين وآبار روسيا، فضلاً عن البروباغاندا الهائلة التي يرددها النظام الروسي عن قوته العسكرية.

من ميونيخ، في العام الأخير لترامب، قال جو بايدن في خطابه إن أميركا عائدة عما قريب. وفّر بوتين سبباً للعودة، ونجحت أميركا حتى الآن في استعراض قدرتها العسكرية وتأكيد مصداقيتها أمام حلفائها، أي عودتها، على حساب مصداقيتها أمام العالم. غزة هي المسرح الآخر لتأكيد الالتزام أمام الحلفاء، وأيضاً لرؤية أميركا كقوة غاشمة تفرض إرادتها بمصادمة واضحة مع الأعراف والترتيبات الدولية.

قبل أيام قصف الروس حفلاً شعبياً أوكرانياً، وتشابهت جثث الضحايا مع الصور من غزة. تجاهل الإعلام الغربي كليا ذلك الحدث، كأنه لم يقع. من شأن تغطيته أو الإشارة إليه أن تفتحا الباب أمام سؤال: وماذا عن غزة؟

هذا النفاق الأخلاقي هو أزمة استراتيجية في طبيعته.

تراقب الصين ما يجري، شفتاها ترددان مقولة قائدها “إن عودة تايوان إلى البلد الأم هي مهمة وطنية قصوى”.
المعضلة التايوانية مجرد واحدة من التعقيدات المتزايدة في العلاقات الصينية- الأميركية، أو هي الأزمة التي يعترف الطرفان علانية بوجودها. البلدان ذاهبان إلى فخ Thucydides، كما يتوقع غراهام أليسون، أستاذ العلاقات الدولية في هارفارد: النزال المفتوح.

المعركة في أفريقيا عالية الوتيرة، تخسرها أوروبا عن جدارة. لنترك مسؤولاً أفريقيا عالي المكانة في منظمة الصحة العالمية ليخبرنا: حين نتحدث، كأفارقة، إلى الألمان فإنهم يلقون علينا محاضرة. وحين نتحدث إلى الصين فإنها تبني لنا في الحال مستشفى.

على الضفة الروسية لا يملك الغرب ولا الروس استراتيجية للخروج وإنهاء المعركة. الفخ الروسي هناك هو فخ غربي أيضاً.

في هذه الأجواء تبدو الحرب على غزة تلة للمأزومين، ليصرخوا من أعلاها وعلى ركامها بصوت عال:
نحن متحدون، كولونياليون، أقوياء، ومتوحشون كما كنا. لا تسيئوا التقدير يا سكان العالم، أسناننا لا تزال حادة.

م.غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى