كتّاب

توت عنخ آمون .. ملك الأقدار…


توت عنخ آمون .. ملك الأقدار
فى مثل هذا الشهر نوفمبر سنة 1922
الحضارة المصرية القديمة حضارة الرموز والتقاليد والنظم والأخلاق، أقامت أقدم مجتمع منظم منتج بناء قبل أن تشرق شمس الحضارة على غيرها من بقاع الأرض ومنذ بداية الألف الثالثة من السنوات قبل مولد السيد المسيح أقام المصريون القدماء دولتهم الموحدة التى أبهرت العالم بمنتجها الحضارى: الأخلاقى والمعمارى والفنى، ولكن لأن الزمن “دوار” والأيام دول ولأن الاختلاف والقوة والضعف من سنن الكون، ولأن لا شئ يبقى على حاله، فقد تعرضت تلك الدولة فى نهاية الأسرة السادسة للضعف والتفكك فيما يطلق عليه علماء المصريات “عصر الفوضى الأول” والذى استمر لمايزيد على المائتى عام حتى أعادت الاسرة الحادية عشرة توحيد البلاد من جديد، ولكن سرعان ما تعرضت البلاد لغزو الهكسوس الذين أقاموا عاصمتهم فى شرق البلاد “أواريس” وبسطوا سيادتهم منها على مختلف الأقاليم المصرية، حتى هبت من جديد ومن طيبة الخالدة أسرة ملكية مكافحة تمكنت بعد جهود وتضحيات من طرد الهكسوس وبعدها يؤسس ملكها المنتصر أحمس بن سقنن رع الأسرة الثامنة عشر فى نحو منتصف القرن السادس عشر قبل الميلاد،
تلك الأسرة التى حكمت من طيبة لمدة تزيد على مئتى وخمسين عاما، مثلت العهد الإمبراطورى الكلاسيكى فى قلب التاريخ المصرى القديم الذى امتد لثلاثة آلاف من السنين، إذ لم يكتف أحمس الأول بطرد الهكسوس من مصر واستئصال شأفتهم بل راح يطاردهم لما وراء فلسطين، وراح خلفاءه المحاربين العظماء ” التحامسة”يواصلون زحفهم لتصل قواتهم وفتوحاتهم وفى عهد الملك العظيم امنحتب الثالث لشواطئ الفرات شرقا وشمال سورية شمالا وحتى الشلال الرابع لنهر النيل فى قلب السودان جنوبا، وإقليم برقة فى الغرب، وعم الهدوء والاستقرار انحاء الامبراطورية المصرية مترامية الاطراف
وكان من الطبيعى أن تنعم البلاد فى زمن تلك الأسرة العظيمة بالأمن والسلام وبالرخاء والازدهار فغنائم الحروب وايرادات الامبراطورية هائلة، ويبدو ذلك فيما تركته تلك الاسرة من فنون وعمائر فى مختلف أنحاء البلاد وخاصة فى معابد الدير البحرى والكرنك والأقصر وفى مقابر وادى الملوك، أو بيبان الملوك، غير أنه كان من أهم المتغيرات التى فرضها اتساع رقعة الدولة المصرية هو أن حكمها قد ضم فيما ضم شعوب عديدة وأعراق وعقائد وثقافات مختلفة تأثرت وأثرت بطبيعة الحال فى العقيدة والثقافة المصرية التليدة، وهكذا تهيأت الظروف أمام الفرعون العاشر لتلك الأسرة أمنحتب الرابع أبن أمنتحتب الثالث ليعلن اختلافه عن عقيدة الأسلاف وثورته الدينية عليها، وعلى الرغم من أن الدم الملكى يجرى فى عرق إخناتون من ناحية أبيه إلا أن أمه العظيمة “تى” تنتمى لأفراد الشعب العاديين ويبدوا أنها قد تأثرت بالثقافات الوافدة للبلاد وورثت هذا لابنها الملك، ويبدو أن الفرعون الشاب قد فكر كيف تعرف وتدين تلك الشعوب العديدة من آسيا وافريقيا لآمون التليد الذى يؤمن به المصريين؟، ومن هنا فلابد من إله أكبر وأعلى تدركه الشعوب كلها على اختلاف عقائدها القديمة، ورأى فى “أتون” إلهه العظيم قوة خارقة تسود الدنيا وتسمو وتهيمن عليها فاتخذ له رمزا واحد يتجلى فى “قرص الشمس” فراح يجسد على جدران المعابد قرص الشمس الذى تخرج أشعته على الناس وعلى الارض فتملأها خيرا، وتنتهى اشعة الشمس بأكف توزع الرزق على الناس اما الشعاع الذى ينتهى الى وجه الملك وأنفه بالتحديد فينتهى بعلامة الحياة “عنخ” اذ يستمد الملك حياته من آتون ويعيش على فيضه، وقد سعى إخناتون أن يسود إلهه آتون، على مختلف آلهة طيبة بما فيهم كبيرهم وسيدهم آمون، وهنا نجده يغير اسمه من أمنحتب وتعنى “آمون راض” إلى إخناتون وتعنى “المخلص لآتون”، وحاول كهنة آمون الأقوياء ترويض الفرعون الشاب الذى لم يكن قد تجاوز بعد الثلاثين عاما من عمره، وإعلان الحفاوة بإلهه “آتون” بجانب آلهة طيبة العظماء وأرباب معابدها ومسلاتها ومقابرها، كآمون ورع وحورس وأوزوريس وإيزيس وحتحور وست وخنوم وعشرات غيرهم، ولسنوات أربع قضاها إخناتون فى طيبة لم يقبل بأى حلول وسط مع كهنة آمون ولم يتزعزع إيمانه بإلهه العظيم بل ملك آتون عليه نفسه، فراح يتجاسر على آلهة طيبة ويدعو إلى محو صورهم من على جدران المعابد وتحطيم تماثيلهم فبها، وهنا لم يكن من الممكن أن يظل كهنة طيبة صامتين فراحوا يجاهرون بكراهيتهم لملكهم ويعلنون عدائهم له ويتآمرون عليه بل ويلقبونه “بالمارق”.
ولم تعد طيبة تتسع لآمون وآتون معا، ووجد إخناتون نفسه مضطر لأن يفربدينه وأسرته وانصاره والمؤمنين به بعيدا إلى الشمال، وبعد مايزيد على اربعمئة كيلو متر وضع رحاله، وشرع فى تشييد مدينة لا يعبد فيها سوى إلهه العظيم آتون “مدينة أخيتاتون” إى أفق آتون – تل العمارنة بالمنيا حاليا- وراح الملك ينصرف عن شئون الحكم وتصريف شئون الدولة، ويسرف فى العبادة ويتفرغ لها وفى كتابة صلواته وابتهالاته لآتون
واحتار المصريين بين الولاء لملكهم المعزول فى تلك البقعة البعيدة والمجرد من القوة والنفوذ، أوالولاء لكهنة طيبة الأقوياء المستبدين، وشجعت تلك الأحوال كثير من حكام الأقاليم المصرية على التمرد، كما شجعت الحكام الذين يخضعون لمصر على رفع راية العصيان، ومع اضطراب الاحوال راحت الاحتجاجات الاجتماعية تتوالى والفتن تستعر،
فى هذه الظروف وبعد نحو اربع سنوات من فرار اخناتون الى تل العمارنة ولد لاخناتون ابن فاسماه “توت عنخ آتون” أى الصورة الحية لاتون، ولا شك انه كان قرة عين أبيه اخناتون بالتأكيد، بعد ان سبقه بانجاب ستة من البنات
واستمرت الفتن والاضطرابات تشتعل فى مختلف انحاء البلاد، وراحت الرسل تغدو وتروح بين طيبة واخيتاتون، فى محاولة لرأب الصدع وتضييق شقة الخلاف لإنقاذ البلاد من الفوضى التى راحت تتسع وتزيد، ومرت ستة عشر عاما على استقرار اخناتون بتل العمارنة، وفجأة وفى ظروف غامضة يموت “إخناتون” الملك القلق، وتشهد اخيتاتون سنتين او ثلاث من الفوضى حتى يتولى الحكم “توت عنخ آتون” وهو بالكاد يبلغ التاسعة من عمره وعندما تصل الفوضى الى اخيتاتون نفسها يتقدم قائد الجيش “حورمحاب” الرجل القوى فى البلاد كلها، ليعيد الهدوء اليها ويتولى زمام امرها، ويرسم سياسته لإنهاء كل هذه الفوضى التى ضربت البلاد ومسبباتها فيفرض على الملك الصبى تغيير اسمه من “توت عنخ آتون” الى توت عنخ امون، ليعلن موت اتون وعودة السلطة الى آمون وكهنته، ويجبره على ان يرحل معه من تل العمارنة حيث ولد وترعرع ليعود الى طيبة التى لم يرها ابدا، وهكذا تكون الأقدار المعجزة قد شاءت أن يكون حكم هذا الملك الصبى هو المعبر الذى عبرت من خلاله البلاد من عهد الفوضى والفتنة والاضطراب الى عهود الاستقرار والوحدة والنظام مرة ثانية
,,وعاد توت عنخ آمون وزوجته الصغيرة الى طيبة التى لم يعرفها يوما وتوحدت السلطة فى البلاد فعاد الأمن والهدوء الى البلاد بعد ما يزيد على خمسة عشر عاما من الانقسام والفوضى وانهيار السلطة المركزية ومرت سنوات قليلة والملك يعيش معزولا داخل قصرة بلا سلطات وربما محدد الاقامة يعانى نظرات الاحتقار فهو رغم أنه الملك الشرعى الا انه فى نفس الوقت ابن الملك المارق والذى ولد وترعرع وتم تنصيبه ملكا للبلاد فى ظل آتون وفى عاصمة المروق اخيتاتون
وكان من الطبيعى أن يكون فى طيبة وفى القصر من ير أنه لا بد أن تنتهى كل علاقة للبلاد بآتون والويلات التى جرها على البلاد، وفجأة يموت الملك وهو بالكاد فى الثامنة عشره من عمره، وبالتأكيد يموت قتيلا،
المهم بسرعة يتم توجيه جثمان الملك للتحنيط والدفن طبقا للتقاليد والطقوس الآمونية العتيقة والتليدة ومع راح الباحثين يتسائلون عن سر هذا الموت المفاجئ للملك وهو فى هذه السن الصغيرة، وبعد اكتشاف مقبرته كاملة تضم مومياءه، خضعت تلك المومياء للفحص بالاشعة ليجد الباحثين تهشما فى عظمة الفخذ وقطعة صغيرة من عظام مؤخرة الجمجمة تستقر فى اعماقها، ومن هنا راح الباحثين يؤكدون موت الملك فى حادث تم تدبيره فى القصر ومحيطه، فهل هناك من تربص بالملك وهو يسير وحيدا ليضربه بهراوة ثقيلة على رأسه، وراح بعضهم يتصور أن الملك وهو الصبى صغير السن عديم الخبرة بأعمال القتال وعديم الدربة بأنواع الخيول والعربات الحربية قد أتى إليه بخيول جامحة ولم تعد له عجلة حربية آمنة فما أن أعطيت الخيول الاشارة حتى قفزت فى الهواء ليرتفع المالك عاليا ويسقط على أم رأسه ويموت
ويخرج عن اهتمامنا هنا ان تناول بالتقييم أو التحليل اى من عقيدتى آمون او آتون، كما يخرج عن اهتمامنا ان ننحاز لأى من العقيدتين، ومن ثم فنحن نتناول هنا الاحداث التاريخية بصورة ارجو ان تكون موضوعية كما حدثت وكما تناولها اغلب الباحثين فى أمر تلك الفترة الثرية بالاحداث من تاريخ البلاد وأثرها على سير الأمور وتطورها من حيث أدت الى عوامل الوحدة والاستقرار والسلام والتى كانت اهم عوامل ازدهار الحضارة المصرية القديمة واستمرارها
ونعود إلى ملكنا العظيم توت عنخ آمون الذى يبدو أن موته المفاجئ كانت فاجعة قاسية لبيت امنحتب الثالث العريق، وخاصة وهو بموته يصبح آخر من حكم مصر من سلالة أحمس الاول مؤسس الاسرة 18 واولاده التحامسة العظماء، اذ حكم مصر بعده الملك آى لفترة وجيزة لا تتجاوز اربع سنوات معلنا الانتصار النهائى لعقيدة آمون وكهنته وأعقبه القائد العظيم حور محاب الذى حكم لفترة تصل الى الثلاثين عاما، وهذان الملكان – آى وحور محاب – لم يكن يجرى فى عروقهما الدم الملكى من اى طريق وانما لعبت مناصبهم الهامة دورها الحاسم فى قدرتهم على صناعة الاحداث، واستمدا شرعيتهما فى حكم البلاد من الزواج من بنات البيت الملكى اذ تزوج انى من “عنخ اسن آمون” أرملة توت عنخ آمون بينما تزوج حور محاب من اخت نفرتيتى الصغرى
ورغم ذلك فقد كان موته المفاجئ مصدر للارتياح إذ بموته تكون قد قطعت البلاد كل علاقة لها بآتون والآتونية، فقد كان آخر من حمل لقب آتون، ومن هنا فقد عومل جثمانة بكل الاحترام الواجب كما تقتضى العقيدة والتقاليد الآمونية التليدة،
ومن هنا يأت الحدث المعجز التالى للفرعون العظيم اذ تم تحنيط جثمانه تحنيطا ملكيا لائقا وعلى وجهه وضع قناعا ملكيا من الذهب والاحجار الكريمة كالعقيق والفيروز، يعد من وجهة نظرى القطعة “الماستر” الأشهر بين الملايين من قطع الآثار المصرية التى تنتمى لجميع العهود الفرعونية كما اعد له ثلاث توابيت من الذهب الخالص وضعوا داخل تابوت حجرى وكلهم داخل اضرحه اربع من الخشب المذهب ومع كل هذا عشرات الالآف من القطع ككراسى العرش والتماثيل والقلائد الذهبية، والأوانى المرمرية والأسرة بمختلف اشكالها والملابس والاقواس والسهام وصولجانات المناسبات المختلفة، وعشرات من انواع الذهور والنباتات والمحاصيل ومنتجاتهم المختلفة، ثم آلاف من تماثيل “الاوشابتى” التى توضع فى المقبرة حيث يكونوا فى خدمة الملك بعد عودته الى الحياة، وقد كان اكتشاف عالم المصريات “هوارد كارتر” لتلك المقبرة (نوفمبر 1922) لتلك المقبرة سليمة بكامل محتوياتها واحد من اهم مكتشفات التاريخ الفرعونى كله ان لم يكن اهمها على الاطلاق….. يسعد أوقاتكم


يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى