كتّاب

الشيخ الطبلاوى الذى فقدناه والأستاذ سلامة…


الشيخ الطبلاوى الذى فقدناه والأستاذ سلامة
والأرزاق المقسومة
كنت فى آخر السبعينيات من القرن الماضى مدرسا للتاريخ فى معهد “خاتم المرسلين الثانوى الأزهرى” بالعمرانية، والجو صيفى رائق يفتح النفس للعمل والنشاط، وفى الحصة الأولى بينما أكتب “الملخص السبورى” للدرس .. سمعت صوتا مرتفعا لتلاوة رخيمة شجية فخمة للشيخ محمد محمود الطبلاوى الذى لمع اسمه فجأة فى دولة تلاوة القرآن الكريم فى مصر، فتوقفت لأسأل طلابى: إيه ده .. حد معاه راديو أو كاسيت مشغله يا اولاد؟؟ .. فردوا: لا يا أستاذ دا الأستاذ “سلامة” مدرس التجويد بتاعنا فى الفصل اللى جنبنا
فأسرعت إلى الفصل المجاور ودخلت من الباب الموارب لأجد الأستاذ سلامة جالسا على كرسيه أمام طلابه، واضعا يديه الاثنتين على أذنيه مندمجا فى التلاوة، ورآنى فوضعت يدى على صدرى مبتسما لكى يطمئن ولا يتصور أن هناك أمر مزعج، حتى توقف فى موقع ينبغى الوقوف فيه، قائلا: خير يا أستاذ كمال؟؟ فقلت له: خير طبعا، سمعتك من الفصل المجاور وافتكرت حد مشغل الشيخ الطبلاوى بصوت عال، والأولاد قالولى: لأ دا الأستاذ سلامة.. وأقسم بالله يا أستاذ سلامة قراءتك “أشجى وأكثر عذوبة” من قراءة الشيخ الطبلاوى، .. فقال الأستاذ سلامة: ماهو الشيخ الطبلاوى تلميذى وأنا إللى علمته أحكام التلاوة من كام سنة، فقلت له: لا دى محتاجة قعدة وكباية شاى بعد الحصة
ظهر الشيخ الطبلاوى على مستوى الإذاعة ليحتل مكانتة المرموقة سريعا فى عالم التلاوة، طبعا لن ينتظر أحد أبدا صوتا فيه تلك العجائبية الربانية النادرة كصوت الشيخ محمد رفعت، وكان الناس قد تشبعوا من حرفنة الفذ مصطفى اسماعيل وقدرته على أن يتلاعب بأسماع الناس متنقلا بمهارة فائقة بين القراءات والمقامات، حتى ليخرجهم عن شعورهم وما ينبغى لمستمعى القرآن من الإنصات والوقار والخشوع، كما إمتلأ الناس بقدرة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد على أن يخلب ألباب مستمعيه بصوته الرائق المسترسل والمنساب كغدير الماء الصافى،
فى نفس الوقت الذى لم ينجح الشيخ الطبيب أحمد نعينع – رغم جمال صوته- فى منافسة الكبار، لشعور الناس أنه القارئ الخاص للسادات من ناحية وفقر قدراته اللحنية من جهة أخرى، ووقوفه الحائر بين مدرستى التجويد والترتيل ورتابتة تلاوته إذ لا يأت بجديد بعد الدقائق الخمس الأولى منها، وربما لنوع من التعالى فرضه هوعلى الناس باعتباره “المقرئ الطبيب”
ولم يتقبل الناس طريقة ولا أصوات قراء القرآن السعوديين، لبداوتها وخشونتها وخنافتها وفقرها اللحنى، ومناصبتها العداء المقيت لمدرسة التلاوة المصرية، رغم ما بذل من أموال وجهود لفرضها على الذائقة المصرية، إذ كيف تتقبل الذائقة التى صنعت سيد درويش وعبد الوهاب وأم كلثوم وصالح عبد الحى وزكريا احمد والسنباطى والموجى وبليغ، هذه التلاوة التى تخلو من الشجن والجمال واحترام المقامات الموسيقية
فكان من الطبيعى لكل تلك الأسباب أن يحتل صوت الشيخ الطبلاوى تلك المكانة المرموقة، فهو صوت فلاح مصرى عميق ومتواضع وواثق وخاشع، ومتميز وصاحب مدرسة متفردة، لا يميل للاستعراض ولا للمبالغة فى العرب والحليات الصوتية وفى نفس الوقت فهو صوت قوى عريض فخم يشبه”خط الثلث” سلطان خطوط الكتابة العربية
وأعود للأستاذ سلامة – مدرس التجويد – الذى كان فقيرا إلى حد الغلب، كثير الأولاد.. طيبا إلى حد السذاجة، وكانت مرتباتنا تتراوح بين الاربعين والستين جنيها، ومع هذا كان قانعا وراضيا وابن نكتة، سألته عن حكاية الشيخ الطبلاوى، فقال: بلدياتى من قرية برقاش – جيزة، وأنا قارئ قرآن بمسجد القرية وأقرأ بعد صلاة المغرب ربعا أو ربعين، نظير مكافأة تبلغ ثلاثين جنيها من وزارة الأوقاف، والشيخ الطبلاوى عامل فى مصنع الشركة الشرقية للدخان بالجيزة، وكان مواظبا على أداء الفروض فى نفس المسجد، طلب منى ان أعلمه أحكام التلاوة، لأنه قد تقدم للاعتماد بالإذاعة مرات عديدة فلم يوفق رغم انه مقرئ معروف فى الجيزة كلها، ولأنه يحرم على حاملى القرآن منعه عن الناس ولا حتى تقاضى أجر عنه – إلا الجودة- رحت أعلمه وللحق كان ذكيا فطنا حفيظا، وسرعان ماعرفت أنه أخيرا قد تقدم للجنة الاستماع بالإذاعة فقبلته، وسرعان ماذاع صيته وأصبح يتقاضى “عشرة آلاف جنيها” فى الليلة، فهدم الدار القديمة وحولها إلى فيلا كبيرة، وأصبح يركب المرسيدس السوداء آخر موديل بسائقه الخاص
فسألته هل مازال الشيخ يحفظ الود؟ فقال طبعا، فهو يرسل إلى بيتى خروفا مذبوحا فى كل عيد أضحى وفطر ومع بداية كل شهر رمضان، وإذا لمحنى ماشيا يصر على اصطحابى بسيارته المرسيدس إلى حيث أريد
نظرت إلى الأستاذ سلامة سعيدا وملتذا بكوب الشاى الذى عزمته عليه، وابتسمت وأنا اتذكر صوت محمود الشريف يغنى من كلمات عبد الفتاح مصطفى: “الدنيا أرزاق قسمها الخلاق لابجهدك تلقاه ولا بعرق وخناق.. سبحان الرزاق” …… يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى