كتّاب

مصر ونيل إفريقية…


مصر ونيل إفريقية
فرص ضائعة:
من يصدق أن عشرات الآلاف ممن هم فى مثل عمرى “أى ستينيين” من سكان أوغندا حيث بحيرة فيكتوريا ومنبع النيل الأبيض، جدودهم المباشرين مصريون، هؤلاء الآلاف بالتأكيد منهم الوزراء والساسة والفنانين والعلماء وغيرهم ولا تدرى حكوماتنا عنهم شيئا ولم يفكر حكامنا فى أى شكل من أشكال التواصل معهم والانتفاع بهم، فى أزماتنا الإفريقية، فكيف كان ذلك؟
حرص محمد على (1805-1848) على توسيع ممتلكات مصر فى إفريقية، وتأمين منابع النيل، فضم السودان وواصل ابنه سعيد وحفيده الخديو اسماعيل توسعهم فى إفريقية بحيث ضمت أوغندا الحالية والتى خضعت تماما للسيادة المصرية منذ بداية عهد اسماعيل، وسميت “مديرية خط الإستواء”،وأصبح حاكمها يعينه مباشرة خديو مصر.
ونعود لمصر التى اضطربت أحوالها فى نهاية عهد اسماعيل نتيجة للأزمة المالية، فعزل وتولى ابنه توفيق (1879-1892) الذى شهد عهده منذ بدايته تصاعدا للحركة الوطنية التى بلغت أوجها فى الثورة العرابية التى تزعمها عرابى ورفاقه فكانوا محط آمال الشعب المصرى فى الدستور والحكم النيابى ومواجهة النفوذ الأجنبى، وتطورت الأحداث التى تعرفونها بحيث انتهت إلى هزيمة عرابى 9 سبتمبر 1882، وإحتلال انجلترا مصر والقبض على عرابى ورفاقة ونفيهم ‘لى سيلان، وبدأ الإنجليز يعدون البلاد لحكمهم الدائم، وكانت العقبة التى واجهتهم: ماذا يصنعوا بجنود العرابيين وضباطهم الصغار، وهم يسعون لصناعة جيش يقوده ضباطهم الإنجليز ويضرب جنوده تعظيم سلام لهؤلاء الضباط الانجليز، وهو مايستحيل أن يفعله جنود عرابى وضباطه الذين سمعوا من عرابى ورفاقة عن الحرية والوطنية والدستور والشورى وخيانة الخديو توفيق وانحيازه للإنجليز مما يستوجب عزله بل قتله وإعلان الجمهورية، والذين وقف بينهم عبد الله النديم خطيبا، وسرعان ما اختفى فى رحم الناس الذى خرج منه رغم المكافأة الكبيرة الذى رصدها الإنجليز للعثورعليه، هؤلاء الجنود والضباط المصريين الذين واجهوا الإنجليز بسلاحهم في الإسكندرية وكفر الدوار والمحسمة والقصاصين والتل الكبير واستشهد العشرات من زملائهم فى تلك المواجهة الدموية. وإذا كان بقائهم فى الجيش خطيرا، فإن إعفائهم من الجندية وتسريحهم لن يقل خطورة، لأنهم سوف ينداحوا وينتشروا فى مختلف البلاد والقرى والكفور والأحياء الذين جاؤا منها ليبشروا بالثورة على الإنجليز
ومن هنا تفتق ذهن الإنجليز وأعوانهم عن إرسالهم فى حملة لتأمين ممتلكات مصر فى “مديرية خط الإستواء”، فالصراعات بين قبائلها لا تنتهى، والخطر بسبب تلك الصراعات يهدد القوات المصرية القليلة هناك، ومواجهة الأطماع الفرنسية التى لم تتوقف عنها فى أى وقت، وسرعان ما أعدت الكشوف التى تضم ثلاثة عشر ألفا من الجنود واثنا عشر ضابطا، حملتهم من مرسي القناطر وروض الفرج سنة 1883، عشرات المراكب التى حملتهم وحملت معهم أطنان من حبوب القمح والذرة والقطن والبرسيم والمئات من أصناف الدواجن والجاموس والأبقار وشتلات الأشجار المختلفة لتتكاثر وتثمر وتكون زادا وطعاما للحملة الهائلة، فالحملة ليست حملة احتلال ولكنها حددت اهدافها الثلاثة وهى: تعمير المديرية البدائية وضمان الأمن بين قبائلها، ومحاربة تجارة الرقيق، وتأمين الممتلكات المصرية هناك، وتحركت الحملة فى فصل الفيضان وعلو المياة لتقطع النيل بطوله من الشمال إلى الجنوب نحو ستة آلاف كيلو متر من قرب مصبه فى المتوسط إلى منبعه فى بحيرة فيكتوريا، ووصلت الحمله بنجاح وراحت تحقق أهدافها ويعم السلام ربوع المديرية.
ولكن السودان على الحدود الشمالية كان يسير فى اتجاه آخر، فهو يعانى من تمرد المهديين منذ 1881، ولكن هذا التمرد تحول إلى ثورة عارمة بعد الاحتلال الإنجليزى لمصر وخضوع مصر نفسها للإنجليز الكفار الذين عزلوا حكمدار السودان المصرى عبد القادر حلمى ليعينوا بدلا منه “غوردون باشا” الإنجليزى، فتشتعل الثورة المهدية ويحاصر المهديين الخرطوم، وينجحوا فى دخولها يناير 1885، ويذبحوا غوردون باشا، ويصبح محمد احمد المهدى سيدا للسودان بلا منازع، ويسعى الإنجليز لفصل السودان عن مصر، فيرفض شريف باشا رئيس مجلس النظار ويستقيل ويتولى الوزارة خلفه نوبار باشا ويعلن فصل السودان عن مصر، وهكذا تتقطع الأسباب بين الآلاف من جنودنا المصريين فى مديرية خط الإستواء، وبين حكومتهم ودولتهم فى مصر، فلا تعليمات ولا خطط ولا مرتبات، ولا حتى إمكانية للعودة للوطن، ويضطر الجنود المصريين للحياة فى هذه البلاد البعيدة معتمدين على هيبتهم وما اكتسبوه من مكانة وسمعة وعلاقات طيبة ربطت بينهم وبين القبائل والحكام المحليين فتزوج الآلاف من الجنود “العشرينيين والثلاثينيين”، من بنات القبائل السمروات شديدى الفتنة والجاذبية.
ترى كم من المصريين لم يستطع أن ينس أهله فى مصر فقرر العودة معتمدا على ذراعة ومتحملا أهوال الطريق الطويل، وكم منهم قد بقي بعد أن كونوا أسرا وأنجبوا البنين والبنات، وأعلنت انجلترا حمايتها على مديرية خط الاستواء سنة 1896،فجرى عليهم ما جرى على السكان المحليين
وأختم بالقول أن هؤلاء البنين والبنات والذين كان آباءهم وجدودهم جنودا لعرابي قد سقطوا تماما من حسابات كل حكوماتنا المتعاقبة ووزراء خارجيتنا ومراكز بحوثنا، رغم أننا أحوج ما نكون إليهم فى قضايانا الإفريقية المعقدة … يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى