كتّاب

الغفوري في تغريبة الوطن….


الغفوري في تغريبة الوطن.
موعد جديد مع المتاعب.

كتب: عبدالغني الماوري
———

ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺼﻌﻴﺪ ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ، ﻋﺸﺖ ﻟﺤﻈﺎﺕ ﻣﻤﺘﻌﺔ ﻭﻣﻔﻴﺪﺓ ﻣﻊ ﺭﻭﺍﻳﺔ ” ﺗﻐﺮﻳﺒﺔ
ﻣﻨﺼﻮﺭ ﺍﻷﻋﺮﺝ ” ، ﻭﻳﺴﻌﺪﻧﻲ ﺃﻥ ﺃﺩﻋﻮﻛﻢ ﻟﻘﺮﺍﺀﺗﻬﺎ، ﻓﻬﻲ ﺣﻘﺎ ﺭﻭﺍﻳﺔ ﻣﺜﻴﺮﺓ
ﻭﻣﻠﻬﻤﺔ ﺗﺠﻌﻠﻜﻢ ﺗﻔﻘﺪﻭﻥ ﻧﺼﻒ ﺧﺠﻠﻜﻢ ﺍﻟﻤﺼﻄﻨﻊ، ﻭﺗﺴﺎﻋﺪﻛﻢ ﺩﻭﻥ ﺗﻜﻠﻒ ﻓﻲ
ﺍﻟﺘﻌﺮﻑ ﻋﻠﻰ ﺧﺎﺭﻃﺔ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻭﺍﻟﺤﺐ ﻭﺍﻷﺑﻄﺎﻝ ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﻴﻦ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺒﻘﻌﺔ
ﺍﻟﻤﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻷﺣﻼﻡ ﺍﻟﻤﺴﺎﻓﺮﺓ ﺑﻼ ﺗﻮﻗﻒ . ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺆﻛﺪ ﺃﻧﻜﻢ ﺳﻮﻑ ﺗﻜﺘﺸﻔﻮﻥ ﺯﻭﺍﻳﺎ
ﺃﺧﺮﻯ، ﻭﺗﻔﺎﺻﻴﻞ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺟﺪﻳﺮﺓ ﺑﺎﻻﻫﺘﻤﺎﻡ، ﺃﻣﺎ ﺃﻧﺎ ﻓﻘﺪ ﻗﺮﺭﺕ ﺃﻥ ﺃﻧﻈﺮ ﻟﻤﻨﺼﻮﺭ
ﺍﻷﻋﺮﺝ ﻭﺍﻟﻮﻃﻦ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻫﻤﺎ ﺷﺮﻳﻜﺎﻥ ﻓﻲ ﻫﻮﻳﺔ ﻗﻠﻘﺔ، ﻭﺻﺪﻳﻘﺎﻥ ﻓﻲ ﺗﺎﺭﻳﺦ
ﻣﻀﻄﺮﺏ ﻭﻻ ﻳﺒﺪﻭ ﺃﻧﻪ ﺣﻘﻴﻘﻲ .
ﺷﻜﺮﺍ ﻣﺮﻭﺍﻥ، ﻻ ﻳﺒﺪﻭ ﺃﻧﻲ ﺳﻮﻑ ﺃﻧﺴﻰ ﻣﻨﺼﻮﺭ ﺍﻷﻋﺮﺝ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ، ﻭﺳﻮﻑ ﺃﺣﺪّﺙ
ﺃﺻﺪﻗﺎﺋﻲ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻄﻔﺊ ﺍﻟﺤﺐ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺴﻜﻦ ﻗﻠﺐ ﻧﺠﻴﺐ ﺍﻷﺩﺭﺩ ﻛﻞ
ﻋﺪﺍﻭﺍﺗﻪ ﺗﺠﺎﻩ ﺧﺼﻮﻣﻪ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﻴﻦ ﻟﻴﺼﺒﺢ ﻭﺍﺣﺪﺍ ﻣﻨﻬﻢ ﻻ ﺃﻛﺜﺮ . ﺷﻜﺮﺍ ﻣﺮﻭﺍﻥ، ﻓﻘﺪ
ﺭﺳﻤﺖ ﺍﻟﻤﺸﻬﺪ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﻛﺄﻧﻪ ﻭﺻﻴﺔ ﺍﻷﻣﺲ ﻭﺍﻟﻴﻮﻡ: ” ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮﺀ ﺃﻥ ﻳﺪﺧﻞ
ﻋﺪﻥ ﺑﺒﻨﺪﻗﻴﺔ .”
ﺷﻜﺮﺍ ﻣﺮﻭﺍﻥ ﻷﻧﻚ ﻛﻨﺖ ﻳﻤﻨﻴﺎ ﺧﺎﻟﺼﺎ ﻓﻲ ﻣﻮﺍﺟﻬﺔ ﺍﻟﺨﺮﺍﻓﺔ
ﺍﻟﻘﺎﺩﻣﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺤﺮﺍﺀ ﻟﻜﻲ ﺗﺴﺘﻌﻤﺮ ﺍﻟﺠﺒﻞ ﻭﻣﺎ ﺗﺤﺘﻪ.

—–

تغريبة منصور الأعرج تصلح أن تكون تغريبة وطن
كعادته يأتي مروان الغفوري في روايته الأخيرة “تغريبة منصور الأعرج” مدهشا وصادما في آن، ما يعني أنه سيكون على موعد مع المتاعب مجددا، لكن ذلك قد يكون فالا حسنا، ففي أحيان كثيرة يجب أن تكون مصدر ازعاج لكي تكون مفيدا، للروائي البرازيلي الشهير باولو كويلهو مقولة في هذا الصدد مفادها:” قول الحقيقة وازعاج الناس أفضل من الكذب على الناس”..
يمتلك مروان ثقافة موسوعية، وأسلوب كتابة خاص به، وقدرة فائقة على الإمساك بالتفاصيل وشجاعة في التفكير، وقبل ذلك موهبة متمكنة من أدواتها الفنية، الأمر الذي يجعل من كتاباته محل ترقب واحتفاء وغضب أيضا.. يمكن القول أن حياة مروان ليس فيها سوى رجلين فقط، واحد يحبه ويؤمن بموهبته، وآخر يكرهه ويعتقد أنه كاتب محظوظ وحسب.
يدخل مروان بيوت الدبابير من خلال منصور الأعرج الذي يتأكد كل يوم أنه ليس سوى تائه ويتمتع بمشاعر ساخنة. تقول السيرة الذاتية لمنصور بن قاسم بن عبدالغني الحكيم -وهذا اسمه الكامل- أنه ولد في السهل وهذا الأمر له دلالة مهمة في الرواية، فسوف يظل منصور متشككا من الجبل الذي يبدو مهمينا على كل شيء. لم يكن قد بلغ عامه الأول، عندما اكتشف الجميع إنه أعرج، كان هذا يعني أنه ربما كان مسخوطا، على الأقل كان هناك من يبدو واثقا من ذلك، والدته وحدها كانت تعتقد أنه غنج الأطفال، فيما بعد سوف يكتشف منصور أن عرجته بمثابة هوية جديده يصعب اخفاءها، فلم يعد يناديه أحد باسم أبيه، صار اسمه الجديد كما هويته منصور الأعرج. سيذهب منصور الأعرج ضمن وفد برئاسة شيخ قريته حذران إلى تعز فهناك سوف يشهدون إعدام شخص تجرأ وأهان بنات رسول الله، في الطريق إلى تعز سيدرك أن أمه كانت محقة عندما أخبرته ذات يوم: “ستحملك ساقاك في الجبال مثل الصالحين”. كانت الشمس قد منحته الثقة بقدميه، ومنذ تلك اللحظة نشأت علاقة من نوع خاص بينه وبين الشمس لدرجة أنه ذات يوم قال لها إنه واحد من رعاياها، وأنها أيضاً أمّه، قال أيضا أن النهر البعيد والقريب في آن هو أبوه، وسيكون عليه أن يجده ذات يوم.
لم يكن منصورا يعرف أكثر من الكلمات التي تفوه بها شيخ قريته حذران، لكنه مع قطع رأس الثلايا بكى كثيرا.. وفقا للرواية فقد كان السبب في بكاءه الممتد تذكره كيف سقط رأس الثلايا وبقي جسده منتصباً لبعض الوقت ثم هوى. سحرته اللقطة، ولكنه لم يفهم ما الذي يدفع المرء إلى القيام بأعمال يمكن أن تؤدي إلى سقوط رأسه. فيما بعد سيتذكر منصور وآخرون هذا اليوم كلما حدث أمر ذا بال أو غير ذي بال.
ظلت صورة الثلايا تلاحق منصور الأعرج في أيامه المقبلة، بدا الأمر وكأنه نوع من الانتقام أو العتاب، الضحية تعمل كل ما في وسعها لجعل حياة الجلاد غير طبيعة، منصور كان هناك للفرجة، صحيح أنه لم يستوعب زاومل قبائل حاشد وبكيل وغيرهما من الجموع المؤيدة لإعدام الثلايا، لكنه في نهاية المطاف كان هناك.
بعد نحو عشرين عاما، سيكون الرئيس ابراهيم الحمدي محور السهرات التي تجمعه بأصدقائه الجدد، نجيب الأدرد وابراهين(ابراهيم)الفتة، وآخرين يرون فيه حلم تم اجهاضه مبكرا، يتذكر الفتة كل التفاصيل، يتذكر كيف صاح: “قتلوا إبراهين في صنعاء”، يتذكر كيف دخلت الغمة فجأة إلى الوادي، وصار الكرب يفيض على من حوله: “قلتُ لكم إنه لن يعيش طويلاً وأنهم سيقتلونه”، جعفر ابن الشيخ معين يكسر صمت الوجوم الذي كان استبد بالمكان: “قتلوه عيال إيري”.
لم يكن منصور الأعرج يعرف شيئا عن ابراهيم الحمدي، لم يكن يعرف شيئا ذا قيمة، لا يجب لوم شخص اعتاد أن يقضي معظم وقته في الصمت والسير فوق الأشواك لبلوغ البحر والقرية التي تستلقي فوق جبل غير مأمون الجانب، لم يكن هناك ما يشغل منصور سوى كيف يعبر بعرجته طبيعة متقلبة وشاحبة ليتأكد أنه شخص سوي مثل الآخرين. لا شك أن منصور الأعرج سأل نفسه كيف حدث ذلك، لكن المؤكد أنه لم يكن ليعاقب نفسه، فذاكرته تشبه ذاكرة كثيرين التقاهم هنا وهناك، لا أحد يعرف ماذا يعني الحمدي؟.
بعد قليل سوف تتوثق العلاقة بينه وبين نجيب الأدرد، سيحكي هذا الأخير كيف عاش سعيدا في زنجبار، قبل أن يأتي الشيوعيون ليقتلوا العرب الذين كانوا هناك.. حسنا، لقد صار صديقاً لمنصور الأعرج، وسيعرفان الطريق إلى الحرب معاً. سيحارب منصور الأعرج مع الإسلاميين، وسيقاتل نجيب الأدرد إلى جوار الشيوعيين.. تتطرق الرواية لحروب المناطق الوسطى، وكيف اصطف المشائخ والاغنياء ورجال الدين وبعض الذين يودون الموت في سبيل الله في مواجهة أشخاص في أغلب الأوقات كانوا متحمسين وصادقين رفضوا أن يظلوا فقراء وجوعى للأبد.
ساقت الظروف منصور الأعرج لأن يكون مقاتلا في جيش الله أو جيش الشيخ طه أبو علي، لم يفكر في استشارة ابن علوان الذي أحبه وظل إلى جواره عندما كان في مقتبل عمره الطافح بالأحلام الفقيرة، لقد أصبح الشيخ طه أبو علي هو الرجل الوحيد الذي يمكن أن يتحدث باسم الله، فقد كان متدينا، وقد سمع الجميع كيف دعا إلى مواجهة نجيب الأدرد ومجموعته التي لن تكتفي بقتل الرؤساء والشيوخ، بل سوف تعمد إلى أخذ النساء.. أصبح منصور الأعرج جنديا في جيش الله، ولاحقا ستصبح اليمن ضمن هذا الجيش في الحرب التي سوف تقودها الولايات المتحدة الأمريكية ضد السوفييت الكفار.
كانت اليمن تتهيأ لهذا الدور، فقد وُزعت الأرض بين الجبهة الإسلامية والجبهة القومية، في اشارة ذكية للنزاع غير العقلاني بين الإسلام والوطن، فهناك أشخاص يعتقدون أنه يجب أن يحدث صدام بينهما، كل ذلك يحدث رغم أن الإسلام شيء والوطن شيء آخر، لكن ما أكثر المجانين الذين يرون فيهما عدوين مخلصين للموت.
أصبح منصور قائد مجموعة تخصصت في الألغام، وكان صديقه نجيب الأدرد قد أصبح قائدا أيضا، كانا يفكران ببعضهما، فقد كانا فقيرين رغم أنهما ينتميان لمعسكرين مختلفين تماما، تدوم الصداقة ما لم يتخللها اقتراض من المال، يقول مارك توين. لم يمض وقت طويل حتى يقع منصور الأعرج في الأسر، وهنا يتدخل نجيب الأدرد لدى قائده أحمد الوجرة للإفراج عنه، مؤكداً أن منصور لا يعرف حقيقة هذه الحرب، وأنه سينضم لصفوفهم حتما، يوافق الوجرة، فقد كان رجلا شجاعا ويعرف كيف يتعاطف مع البسطاء حتى لو كانوا يقاتلون في صفوف أعداءه..
بالنسبة لمنصور الأعرج، لم تعد الحرب ذات معنى، فقد جاء المحاربون من كل مكان للقضاء على الجبهة الوطنية، لقد تعب من الحرب، وجاء الوقت ليغتسل من آثامها ببحر عدن، لكنه لا يعرف أين هذه عدن؟. في ذمار سيقولون له: إنها في الجنوب، وإنها بعيدة، بعيدة جدا، ودخولها لن يكون يسيرا.
كان منصور لا يزال حاملا معه بندقته من حروب الجبل، لكن أحدهم أخبره أن أشخاص يقال لهم حرس الحدود سوف يقتلونه، لا أحد يمكنه دخول عدن ببندقيته حتى لو حاربت باسم الله. تخلى منصور عن بندقيته، وسوف ينصحه أحدهم بخلع كوته، فعدن أرض حارة. لعل الرواية كانت تشير في مشهدها الأخير إلى أن عدن والبحر والناس هناك لديهم مزاج آخر غير الذي في الجبل والمرتفعات حيث الخرافة والأوصياء غير المهذبين. بعد مرور عدد غير كبير من السنوات، سيأتون بكل الأسلحة والحج لدخول عدن كغزاة، وثم يعيدون
الكَرّة بعدها بـ 21 عاما.
على الصعيد الشخصي، عشت لحظات ممتعة ومفيدة مع رواية “تغريبة منصور الأعرج”، ويسعدني أن أدعوكم لقراءتها، فهي حقا رواية مثيرة وملهمة تجعلكم تفقدون نصف خجلكم المصطنع، وتساعدكم دون تكلف في التعرف على خارطة الطبيعة والحب والأبطال الشعبيين في هذه البقعة المليئة بالأحلام المسافرة بلا توقف. من المؤكد أنكم سوف تكتشفون زوايا أخرى، وتفاصيل مختلفة جديرة بالاهتمام، أما أنا فقد قررت أن أنظر لمنصور الأعرج والوطن باعتبارهما شريكان في هوية قلقة، وصديقان في تاريخ مضطرب ولا يبدو أنه حقيقي.
شكرا مروان، لا يبدو أني سوف أنسى منصور الأعرج بسهولة، وسوف أحدّث أصدقائي كيف يمكن أن يطفئ الحب الذي يسكن قلب نجيب الأدرد كل عداواته تجاه خصومه السابقين ليصبح واحدا منهم لا أكثر. شكرا مروان، فقد رسمت المشهد الأخير كأنه وصية الأمس واليوم: “لا يمكن للمرء أن يدخل عدن ببندقية”. شكرا مروان لأنك كنت يمنيا خالصا في مواجهة الخرافة القادمة من الصحراء لكي تستعمر الجبل وما تحته.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫7 تعليقات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى