كتّاب

أم كلثوم بين رامى وبيرم التونسي…


أم كلثوم بين رامى وبيرم التونسي
تعد الفترة التى تتوسط غناء أم كلثوم بين أواخر الثلاثينيات وأواخر الخمسينيات هى أحب فتراتها إلى قلبى، فهى الفترة التى توجت فيها كوكبا للشرق وسيدة للغناء العربى، وقد كان فرسي رهان تأليف أغانيها أحمد رامى وبيرم التونسي، صحيح لم يخل الأمر من مؤلفين لأغنية واحدة كالرباعيات للخيام، وأراك عصى الدمع لأبى فراس، وأروح لمين لعبد المنعم السباعى، ولكن ظل لرامى وبيرم النصيب الأكبر من أغانى “الست” طبعا مع الفارق الكبيرفى عدد الاغنيات لرامى الذى انتظمت كتابته لها لنصف قرن
المهم مع عشقى الشديد لأغانيها التى كتبها رامى وبيرم فى تلك الفترة، إلا أننى رحت اتساءل عن الفارق الجوهرى بين كتابة الشاعرين العظيمين، وطبعا هناك فارق هام وهو ان رامى يكتب بالفصحى والعامية معا، فهو يكتب بالفصحى “أغار من نسمة الجنوب، وقصة حبى وإذكرينى، أما بيرم فلم يكتب إلا بالعامية، ولكن الفارق الكبير هو فى تعبير كلا الشاعرين عن عاطفته تجاه المحبوب، فكلاهما يعبر عن عاطفة قوية جياشة، ولكن رامى دائما فى حالة شجن وألم، فحبيبه يهجرة ويظلمه ويسعد بدموعه وذله ولوعته، وهو أبدا فى حالة حب انتهى ولم يعد له وجود إلا فى الذكرى والخيال، أو حبا يحلم به وينتظره، أو حب من طرف واحد بلا رفيق يعطف ويهمس ويصل وينيل، أما بيرم فهو فى تعبيره يحب محبوبا ماثلا، ويبادله المحبوب حبا بحب، ولهفة بلهفة، ويعطيه عن طيب خاطر ما يود ويرغب، حتى وان كان هناك بعض الخصام والدلال فهو ليس إلا الوجه الآخر للرضا والوصال
وكان من الطبيعى أن أسعى لتفسير سر ذلك الاختلاف، كان رامى ينتمى إلى طبقة ثرية فجده ضابط تركى وأبوه طبيب الجيش المصرى فى السودان وقد تعلم فى مصر حتى حصل على شهادة مدرسة المعلمين، وسافر إلى فرنسا وتخصص فى علوم المكتبات والوثائق والى جانب الانجليزية والفرنسية اتقن الفارسية ليترجم رباعيات الخيام وعاد ليعمل نائبا لمدير دار الكتب يعنى عاش حياة بلهنية طبيعية بلا ألم ولا معاناة ولم يكن صاحب توجه سياسي حاد يجلب له المتاعب. وعندما التقى أم كلثوم نحو سنة 1924، كانت ماتزال فتاة ريفية ترتدى العقال، وكان هو شابا ناضجا تجاوز الثانية والثلاثين من عمره فتبناها وأخذ على عاتقه تحديثها وتثقيفها، وكل تلك الظروف والتنشئة تجعل من رامى رجلا محافظا، لا يختلى بحبيب ولا يعانقه ولا يختلس قبلته، كما عرف من خلال ثقافته الشعرية أن الشعر لا يكتب إلا فى الحبيب البعيد، ولذلك كان تعبيره عن عاطفته المشبوبة كما اسلفت.
أما بيرم أما بيرم فقد ولد لجد تونسى واب يعمل بالتجارة، دفع ببيرم للكتاب فكرهه ثم دفع به للمعهد الدينى، وقبل أن يتمه مات الأب وترك بيرم صبيا يكابد الحياة ونكران الأعمام، ويسعى للحصول على الرزق، واقترب من الحركة الوطنية وندد بالمجلس البلدى فى قصيدة صيتته، وإبان ثورة 1919 شبب بالملك فؤاد وزوجته نازلى تشبيبا فادحا، فنفاه فؤاد ليعيش حياة التشرد والضياع بين سوريا وتونس ومارسيليا وباريس، ويعود لمصر خلسة فيقبض عليه ويرحل ثانية، ليواصل تغريبته خمسة عشر سنة أخرى، لتزيد تغريبته كلها بعيدا عن أولاده وعن بلده سبعة عشر سنة، ويصاب بمرض الربو لعملة فى مصنع كيميا ويات ضاره، المهم أننا نستطيع أن نقول أن بيرم وقد عايش في باريس العلاقات الحرة بين النساء والرجال لم يكن محافظا بأى حال، فضلا عن انه قد أخذ من الدنيا مقطوعيته من العذاب كاملة وتزيد، وتعذب بما فيه الكفاية، فلم يكن من الممكن أن يقبل عذابا جديدا من حبيب هاجر أو ظالم او قاسى أو مفترى.
وهكذا سنجد رامى يكتب: سهران لوحدى أناجى طيفك السارى/ سابح فى وجدى ودمعى ع الخدود جارى/نام الوجود من حواليا وأنا سهرت ف دنيايا/أشوف خيالك ف عنيا واسمع كلامك ويايا، وهكذا وبينما رامى سهران لوحده وليس له من حبيبه سوى طيفه،
نجد بيرم يكتب: حبيب قلبى وافانى فى ميعاده ونول بعد ما طول بعاده/قابلنى وهو متبسم وطمنى على وصله وقاللى بعد ما سلم كلام القلب يرقص له/بقي يقوللى وانا اقوله وخلصنا الكلام كله”ولاحظ هنا أن كلمة “نول” لغويا تشير إلى الاغداق بلا حدود
ويقول رامى: ياللى كان يشجيك أنيني كل ما اشكيلك/أسايا كان منايا يطول حنينى للبكا وانت معايا/حرمتنى من نار حبك وانا حرمتك من دمعى/يا ما بكيت وارتاح قلبك أيام ما كنت اشكى وأنعى/عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك وتجيب دموعى منين ولوعتى فى هوالك، ولاحظ هنا قاموس عذاب رامى وكلمات: شجن، أنين، شكوى، أسى، بكا، دموع، حرمان، لوعة وذل
يقول بيرم: شمس الأصيل دهبت خوص النخيل أنا وحبيبي يا نيل نلنا أمانينا/مطرح مايسرى الهوى ترسى مراسينا/والليل إذا زاد وطال تقصر ليالينا/واللى ضناه الهوى باكى وليله طويل.. أنا وحبيبي يا نيل غايبين عن الوجدان يطلع علينا القمر ويغيب كأنه مكان/بايتين حوالينا نسمع ضحكة الكروان على سواقى بتنعى ع اللى حظة قليل يانيل
وبينما يقول رامى: “ياظالمنى وقلبى من رضاك محروم تلوعنى وتكويني تحيرني وتضنيني/ ولما أشكي تخاصمني وتغضب لما أقولك يوم ياظالمنى/ حرام تهجر وتتجنى وتنسى كل ما جرالى واقضي العمر أتمنى يصادف يوم وتصفىالى ”
يقول بيرم: “حبيبي يسعد أوقاته ع الجمال سلطان/في نظرته وابتساماته فرحتك يا زمان/ولما يخطر بقوامه ترقص الأغصان/احلف بحبه وغرامه اصدق الأيمان/عمر الخيال ما يجبش مثال/لجمال وكمال زي حبيبي.. وابلغ وانول كل المأمول دايما على طول وانت حبيبي”
ويقول رامى:”هجرتك يمكن أنسى هواك واودع قلبك القاسى/وقلت اقدر في يوم أسلاك وأفضي م الهوى كاسي/لقيت روحي في عز جفاك بافكر فيك وانا ناسي/غصبت روحي على الهجران وانت هواك يجري ف دمي/وفضلت أفكر في النسيا ن. لما بقى النسيان همي”
يقول بيرم:” أهل الهوى ياليل فاتوا مضاجعهم.. ويقصروك ياليل فى صحبة هنية على وتر رنان للصبحية/فيهم ياليل خل عطف على خله/ويقول له لحن الشوق وخله يقول له/ويقصروك ياليل على هنا وسرور/ والشمس بعد الليل تطلع عليهم نور.. واحنا معانا بدر طالع فى ليلة قدر/فيها حبيب القلب وافى ووفى الندر”
ويقول رامى:”غلبت أصالح فى روحى عشان ماترضى عليك من كتر سهدى ونوحى ولوعتى بين ايديك/صعبان عليا اللى قاسيته فى الحب من طول الهجران/ماعرفش ايه اللى جنيته من بعد مارضيت بالحرمان/فضلت اقول الزمان غير على البعد حالك ولا الرضا بالهوان كتر عليا دلالك”
ولا يمانع بيرم أن يكون فى الحب خصام ولوعة، ولكن بشرط أن تكون الوجه الآخر للوصال والدلال، فيقول:”الحب كده وصال ودلال ورضا وخصام واهو من ده وده الحب كده/حبيبى لما يوعدنى تبات الدنيا ضحكالى/ولما وصله يسعدنى ما افكر فى اللى يجرالى”
حتى فى أغانيهم القصيرة يقول رامى:”ليه تلاوعينى وانت نور عينى” و”ياللى ظالمانى ياللى هاجرانى انت فاكرانى ولا ناسيانى”
بينما يقول بيرم:”جمال الدنيا حلالى وانا وياك وساعة القرب تهنالى مادمت معاك” و”القبلة ان كانت للملهوف اللى على ورد الخد يطوف/ياخدها بدال الواحدة ألوف”
لقد حاولت هنا بدون أن أزعم انها قاعدة مطلقة، أن ابين الملامح العامة لعواطف الشاعرين العظيمين الذين عشقناهما، واهو من ده وده الحب كده
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى