كتّاب

” مع السلامة ياريس”:…


” مع السلامة ياريس”:
عصر الاثنين 28 سبتمبر 1970، كنت فى الثانية الثانوى، وكنا نعيش فى بنى سويف، نسمات الخريف ندية منعشة وقدر من الراحة يشمل من بالبيت فقد انتهى مؤتمر القمة بنجاح، ذلك المؤتمر الذى سعى لحل مشكلة الفلسطينيين فى الأردن بعد مذابح منكرة، كنا من المتابعين للسياسة فقد كان أخى الكبير “الأستاذ صلاح” أمينا للتثقيف بأمانة الشباب،
المهم أن التلاميذ منا راحوا يستعدون للمذاكرة، بينما أمى والكبار يستعدون لمشاهدة تمثيلية العصر الأجنبية فى التليفزيون، وكان التليفزيون وقتها يذيع تمثيليات تستمر عشرات الحلقات ك”بيتون بليس”، ولكن منذ السادسة راح التليفزيون يذيع الصفحات المألوفة للقرآن الكريم على الشاشة يصاحبها طبعا أصوات مقرئينا الكبار، رفعت وعبد الباسط والمنشاوى والحصرى، ورحنا ننظر لبعض ونتسائل فى دهشة وتوجس، هو فيه إيه؟؟ حتى شاهدنا وجه أنور السادات باكيا يتلو من بيان: “فقدت الجمهورية العربية المتحدة وفقدت الأمة العربية وفقدت الإنسانية كلها رجلا من أغلى الرجال واشجع الرجال واخلص الرجال هو الرئيس جمال عبد الناصر…” حالة من الصوات والصراخ سادت البيت فجأة، ولأول مرة أرى أبى المهيب وهو يتشهد بينما يبكى بصوت عال ويرجع “إنا لله وإنا إليه راجعون”، خرجت من البيت هائما على وجهى لأجد العشرات من الشباب الباكى متوجهين لمبنى المحافظة ومنه لمحطة القطار فى الطريق إلى القاهرة، والقطار تمتلئ أبوابه ونوافذه بالأجساد المتلاصقة، وعشرات الشباب يقفزون من على كوبرى المحطة إلى سطح القطار “يسطحوا” فقفزت وسطحت مثلهم، وسار القطار وفى كل قرية ارى العشرات من النساء يحيطون بالقطار يولولون ويصوتون ويشنشلون بطرحهم السوداء، لم يكن معى من النقود إلا ما يمكن أن يكون مع تلميذ من أسرة بسيطة، عدة برايز وعدة قروش كلهم لا يصلوا الى الجنيه، نزلت محطة رمسيس فجرا وتوجهت مع الناس ماشيا لميدان التحرير، لأجد الآلاف هناك، وأخبار عن الجنازة يوم الخميس وفى مدخل إحدى عمارات الميدان جلست بجوار الجالسين وغلبنى النعاس فأسندت زراعى على ركبتى ووضعت راسي فوقهما ونمت، واستيقظت مبكرا على اصوات “سارينات” سيارات كالتى تحمل شخصيات هامة، وراحت الساعات تمر، ولم أفكر كيف نأكل، رجل يفرش على سلم العمارة ورقة صحيفة تمتلئ بسندوتشات الفول والطعمية، فآخذ منها واحدا كغيرى، بائع سميط يمر وسميطة حاف بقرش تسد الرمق، صنبور مياة فى البنزينة المجاورة لمن يريد أن يشرب، وأعود لمكانى على سلم العمارة بعد أن الفت وجوه رفاقى فى المكان، وعندما يبلغ بنا التعب مبلغة نتساند ونحن نجلس على الأرصفة ونغفو، وننتبه لنطالع مانشيتات الصحف الحزينة مع البعض وصور عبد الناصر الكبيرة المجللة بالسواد، وتظهر فى مداخل الشوارع اللافتات التى تحمل عبارات” الوداع يا جمال” .. “إلى جنة الخلد يازعيم”، ويأتينا من بعيد صوت ينشد فننشد معه بحماس وعيون باكية فى نفس الوقت: “الوداع يا جمال يا حبيب الملايين .. الوداع، ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين .. الوداع..” .. ثلاثة أيام فى العراء، لا نأكل ولا نشرب ولا ننام إلا كيفما اتفق، وظهر الخميس اشتعل الميدان حماسا كنا قد عرفنا أن النعش الذى يحمل الزعيم سيتحرك من مبنى قيادة الثورة فى الزمالك ومع اقتراب مرور الجنازة، ومع اشتداد الزحام والتدافع خشيت أن أسقط بين الأرجل فأحرم من نظرة الوداع فجريت إلى مدخل كوبرى قصر النيل وتسلقت عمود إنارة حتى منتصفه وظهرى للنيل، ورأيت الموكب المهيب والسيارة التى تحمل نعش عبد الناصر تلوح من بعيد فبكيت وعندما أصبح النعش أمامى وسط تدافع وضجيج الناس رحت أصرخ: “مع السلامة ياريس”..
وبعد ساعتين من المشى كنت فى شبرا أسأل عن منزل عمى السيد مغيث “16 شارع الشهيد جمال خليفة” وهو المكان الوحيد الذى كنت اعرفه فى القاهرة ومن هناك عدت إلى بيتنا فى بنى سويف

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى