كتّاب

من كتاب هيلين…


من كتاب هيلين

أنت كل التاريخ يا هيلين.
مروان الغفوري
ـــــــ

هيلين، صغيرتي
إياك أن تعتقدي إن الكتابة لك أمر هيّن. أفكر كثيراً قبل أن أكتب لك الجملة الأولى. في الواقع ما إن أكتب الجملة الأولى حتى أجدني في الجملة الأخيرة.
منحتنا الحضارة أشياءً مذهلة. ربما تشهدين في طفولتك تحقق نبوءة الفيزيائي الياباني كاكو: جهاز كمبيوتر في حجم الذرّة. لكن صدقيني حبيبتي، مهما كانت الاختراقات العلمية التي تنجزها الحضارة في عمق الكون فإنها لن توفر لك نظيراً لهذه المتعة السحرية:
حين تخرجين صباح يوم جبلي إلى الوادي بعد ليلة ماطرة، وهناك تقتلعين عشبة صغيرة وتتنشقين رائحة جذورها.

هيلين، طفلتي
اتفقنا على أن يكون اسمك هيلين، ساره وأنا. أمّك تحتفي بالقيمة اللغوية للاسم، حيث النور والشمس والشرق. أبوك، أنا، يرى الأمر بطريقة مختلفة. سأقص عليك حكاية تاريخية لن تسمعيها بعد ذلك، وربما لن تقرئيها إلى الأبد. أعني: سأرتب لك التاريخ لكي تحفظيه دفعة واحدة، كما تعلمته أنا.

عندما كتب هوميروس الإلياذة قبل حوالي 2900 عاماً اخترع هيلين، أيضاً. كانت فائقة الجمال، حتى إن أكثر من ألف سفينة خرجت بحثاً عنها. معها اخترع أخيليس. أشعلت هيلين الحرب بين طروادة واليونانيين. في تلك الحرب قتل أخيليس خصمه الأمير هيكتور، ربط جسده على عربة حصانه ثم طاف به أمام أسوار مدينته طروادة.

تعالي معي صغيرتي نتمشَ في التاريخ، إذن، لننظر ما الذي حدث بعد ذلك. بعد حوالي 600 عاماً من الإلياذة جاء الإسكندر المقدوني. في طفولته، في الثالثة عشر تقريباً، سافر ليتلقى العلم لدى أرسطو. تعرّف على حكاية أخيليس. عندما عاد بعد ثلاثة أعوام إلى أهله قرر أن يصبح هو أخيليس. عندما بلغ 32 عاماً مات، يا هيلين، بالملاريا في بلاد الشرق. كان قد احتل فارس والهند وشمال أفريقيا والشرق الأوسط. كان الاسكندر أسطورة عسكرية نادرة تضاهي أسطورة أخيليس كما ترويها الإلياذة.

بعد موت الاسكندر بحوالي تسعين عاماً جاء حنا بعل، أمير قرطاج، وغزا الإمبراطورية الرومانية. قال حنا بعل إن الاسكندر المقدوني مثله الأعلى.

تصوري يا هيلين هذه المصادفة الساحرة:
الطريقة التي صعد بها حنا بعل جبال الألب، بصحبة أربعين ألف مقاتل، تشبه تماماً الطريقة التي اخترق بها جيش الإسكندر جبال الهندكوش في الشرق، وكانوا خمسين ألف رجلاً.

بعد وفاة حنا بعل بحوالي 150 عاماً جاء يوليوس قيصر. عندما بلغ يوليوس قيصر سن الثانية والثلاثين، السن التي مات فيها الاسكندر بالملاريا، أجهش القيصر بالبكاء. كان قد انتصر في حروب كثيرة لكنه قارن انتصاراته بما فعله الاسكندر فرأى نفسه قزماً صغيراً أمام مثله الأعلى. كان يحارب خصومه لأجل المجد، لأجل أن يشبه الاسكندر.
وكان الاسكندر يقاتل لكي يشبه أخيليس
وكان أخيليس يقاتل لينتقم من عيني هيلين.

تعالي، صغيرتي، نتمشَّ في التاريخ..
عندما دخل نابليون مصر وضع نصب عينه صورة الاسكندر. اتجه إلى الشرق بجيوشه. كان في طفولته قد قرأ سيرة الاسكندر وقصة أخيليس. قرر أن يكون الاسكندر على طريقة أخيليس، أيضاً. خاض معاركه في كل الدنيا. قال عنه جبران خليل جبران: قالوا لنابليون ذات عشية، إذا راح يرقب في السماء الأنجما. هل بعد فتح الأرض من أمنية، فأجاب “أنظر كيف أفتتح السما”.

انتهت به معاركه في جزيرة صغيرة على المتوسط اسمه “إلبا”. لكنه لم ينس قط صورة الاسكندر المقدومني. حتى عسكريو الحرب العالمية الثانية كانوا يلقبون أنفسهم بالاسكندر. بل إنهم لطالما استخدموا تكتيكاته العسكرية في القتال. يقال إن المعركة التي أدت إلى سقوط برلين خاضتها قوات الحلفاء على طريقة حروب الاسكندر، يا صغيرتي.

هل حزنتِ الآن على برلين؟ لا عليك، سأقص عليك فيما بعد ما روته شابة مجهولة في كتاب عظيم “امرأة من برلين” إثر تلك الحرب البشعة. كانوا يتتبعون وقع أقدام الاسكندر، وكان الاسكندر يتتبع وقع حوافر خيل أخيليس، وكان أخيليس قد خرج بحثاً عنك يا هيلين.

دعيني أفاجئك صغيرتي:
القائد العسكري الأميركي “شوارتزكوف” استخدم في حرب عاصفة الصحراء، 1991، خطة حنا بعل التي استخدمها في قتال الرومان. قلتُ لك قبل قليل:
كان حنا بعل يتتبع خطا مثله الأعلى اسكندر، وكان اسكندر يقتفي بطولات أخيليس، وكان أخيليس ينتقم من عينيك يا هيلين.

هيلين حبيبتي،
هل قلتُ لك إني كنت سلفياً طيب القلب؟ قالت لي أمك البارحة: من الأفضل أن تختصر كل التاريخ لهيلين، بما في ذلك تاريخنا الشخصي، لكي توفر وقتها لأجل المستقبل.
حسناً، كنتُ سلفياً لأعوام طويلة. درستُ الحديث والتفسير والعقيدة. لطالما وجدتُ نفسي آثماً، فعندما قرأت منازلات الغزالي وابن رشد ملتُ لابن رشد. وبعد أن توغلتُ في التاريخ ملتُ للصوفية والمعتزلة. وعندما صعدت أبعد من ذلك عشت في العصر الجاهلي مع أجمل فترات الشعرية العربية.
تصوري يا هيلين: يقع كل شعرنا العظيم في العصر الجاهلي. بينما يقع كل شعرنا الركيك في عصر الفتوحات الإسلامية. لن أقدم لك إجابات جاهزة تشرح هذه الظاهرة. أنت لوحدك، صغيرتي هيلين، قادرة على تفكيك هذه الظاهرة، وتشريح اللغز.

هيلين، طفلتي.
اعتراني الآن شيء من الوجل، قليل من الخوف. ليس لذلك تفسير ما. لقد حدث هذا بالفعل، أنت الآن ربما في الثامنة من عمرك، لا تأبهي لشعور خفيف قبل ثمانية أعوام.
تذكرت أمل دنقل، كان يروي عن مقاتل في الخندق يحدث رفاق السلاح عن طفلته:

كان يقص عنك يا صغيرتي، ونحن في الخنادق
فنفتح الأزرار في ستراتنا، ونسند البنادق
وحين مات عطشاً في الصَحَرَاء المشمسة
رطب باسمك الشفاه اليابسة
وارتخت العينان.

هيلين، حبيبتي
ميس يو، ماي ليتل سونغ.
مروان
11.06.13

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫25 تعليقات

  1. تفكيك اللغز والظاهرة بمجرد ان تفك شفرتها سينهال عليها فتاوي التكفير والزندقه، لذلك عندما تقومين بتشريح اللغز وتفكيك الظاهرة احتفظي بها لنفسك.

  2. “اخيليس” ايضا كان يقاتل ﻻجل المجد… ولم يتحرك جيش اليونانيين اﻻ ﻻحتﻻل طروادة .. وانما كانت هيلين ذريعة فقط لتلك الحرب التي لم تشبع طمع وجشع ملك اليونان

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى