كتّاب

ونصل الآن إلى أخطر مشكلة تعرضت لها الكنيسة الجديدة وكان لها…


ونصل الآن إلى أخطر مشكلة تعرضت لها الكنيسة الجديدة وكان لها أعظم الأثر فى تاريخ الدين الوليد:
” وانحدر قوم من اليهودية وجعلوا يعلمون الإخوة أنه: إن لم تختتنوا حسب عادة موسى، لا يمكنكم أن تخلصوا، فلما حصل لبولس وبرنابا منازعة ومباحثة ليست بقليلة معهم، رتبوا أن يصعد بولس وبرنابا وأناس آخرون منهم إلى الرسل والمشايخ إلى أورشليم من أجل هذه المسألة”.( أع 15- 1: 3 ).
هذا أخطر نص إنجيلى على الإطلاق وآثاره مازالت ممتدة لليوم، فذات يوم وبولس فى أنطاكية يدعو الأمميين للدين الجديد، وإذا بوفد من الكنيسة الأم فى أورشليم يحل ضيفا عليهم وينادى بما ينادى به الرسل فى أورشليم وهو أن الخلاص لهو من اليهود وأن الإيمان بيسوع المسيح لابد وأن يمر عبر الإيمان بالعهد القديم الذى هو التوراة بما يستلزمه ذلك من طقوس وعبادات واعتقادات، وأهم إعتقاد عند اليهودى هو الوصية الأولى من الوصايا العشر:
” لا يكن لك آلهة أخرى أمامى”،
أى أن اليهودى الذى آمن بالمسيح فى ذلك الوقت كان يؤمن به على أنه نبى مرسل وليس إلها، بدليل إيمانه فى نفس الوقت بالتوراة التى تمنعه من الإيمان إلا بإله واحد هو يهوه الذى لا أب له ولا إبن ولا شريك له فى الملك………………….
أما بولس وبرنابا فقد كانت وجهة نظرهما أن الديانة الجديدة لا علاقة لها باليهودية، وأن الجماعة المسيحية مستقلة بذاتها وبدينها وبمعتقدها الجديد المتمثل فى مقولة بولس الرئيسية أن المسيح هو إبن الله، وطالما أن المبدأ الرئيسى للدين الجديد يلغى الوصية الأولى للدين القديم، إذن فهناك دينان منفصلان وليس دينا واحدا وشيعة منشقة عنه، كان هذا على الأقل هو رأى بولس الرسول، الذى أخذ معه فكره ورجاله وسافر إلى أورشليم فى مهمة هى الأخطر من نوعها فى التاريخ، لأن نتائجها مازال يتحملها الملايين حتى اليوم.
وهكذا حدث أول مجمع كنسى فى تاريخ المسيحية حوالى سنة 50 بعد الميلاد بناءا على طلب بولس الرسول لتحديد ما إذا كانت ديانة يسوع هى إمتداد لديانة موسى أم أنها ديانة جديدة مستقلة بذاتها، وكما يحدث فى كل الإجتماعات المصيرية يكون هناك عدة وجهات نظر يمثلها فى حالتنا هذه ثلاثة رجال هم أعمدة الكنيسة فى ذلك الوقت هم: بطرس، وبولس، ويعقوب، فكيف أدار الرجال دفة هذا الصراع…؟
مبدئيا نعلم من معطياتنا التاريخية المسيحية أن شخصية بطرس كانت مذبذبة وانفعالية وأن إمكانياته العقلية لم تكن فى مستوى بولس الرسول، وإن بقى له مركزه كرأس تلاميذ المسيح والمسيطر إلى حد كبير على ما بقى من فكر المسيح فى وجدان أتباعه، ثم أنه فى حيرة من أمره فى مسألة دعوة الأمم للدين الجديد، فمرة يدعو أممى إلى دين المسيح ويدافع عن نفسه برؤية يحسبها مقدسة، ومرة أخرى يخاف من مشايخ الكنيسة حين يروه وهو يأكل مع أهل الختان باعتبار أنه يهودى ورع يتنجس حين يأكل مع الأغيار، أى أنه لم يكن صاحب منظومة فكرية دينية يدافع عنها، وبالتالى فنحن لا نتجنى عليه عندما نقول أنه شخصية مذبذبة بل بالأحرى نحن نقيمه تقييما عقليا خاليا من الغرض، وفى هذه النقطة نجده ينحاز إلى جانب الشخصية الأقوى فى الإجتماع أى إلى جانب بولس الرسول وأفكاره على الرغم من أن هذه الأفكار كانت مخالفة تماما لأفكار السيد المسيح كما عاينها بطرس منذ البدء.
أما بولس الرسول فكان موقفه كما عبر عنه فى رسائله يقول: “إذا نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس” ( بولس رومية 3: 28 ).
أى أنه يرى أن مجرد الإيمان بيسوع المسيح يدفع بصاحبه إلى الخلاص بغض النظر عن قيامه بالطقوس الدينية الموسوية، وموقفه هذا متسق مع أفكاره بشأن هوية يسوع المسيح الذى إعتبره بولس إبنا لله، وبالتالى فإبن الله لا يصح أن يكون تابعا لدين موسى النبى، بل هو صاحب منظومة فكرية دينية جديدة “أدلجها” بولس فى مسألة الكفارة.
على عكس موقف يعقوب القائل: “ترون إذن أنه بالأعمال يتبرر الإنسان لا بالإيمان وحده”(رسالة يعقوب).
أما يعقوب أخو الرب فكان يرى باعتباره يهودى مخلص أن الإيمان بيسوع وحده لا يؤدى إلى الخلاص من دون القيام بالطقوس اليهودية المعتادة، وهو هنا أيضا متسق مع أفكاره التى ترى فى يسوع مجرد نبى من أنبياء العهد القديم ماجاء لينقض التوراة والأنبياء بل جاء ليكملها.
وهكذا تعارضت وجهات النظر بين أكبر رأسين كنسيين فى عصر الميلاد، ولابد أن كلا منهما كانت له معطياته ووسائل الضغط التى يستخدمها للوصول إلى مبتغاه، فعلى أى شئ إعتمد كل منهما..؟
كان إعتماد يعقوب الأساسى على أنه من آل البيت وأخو الرب ورأس الكنيسة المسيحية فى أورشليم ومطبق تعليمات الرب كما عاينها الرسل منذ البدء….!، وربما يذكرنا موقف يعقوب هذا بموقف على إبن أبى طالب بعده بمئات السنين.
أما بولس فكان يرى أنه على قدم المساواة مع يعقوب لأنه رأى المسيح شخصيا فى الصحراء، وهو أيضا رأس الكنيسة المختلطة فى أنطاكية، بالإضافة إلى ثراء كنيسته فى أنطاكية الأممية مقارنة بفقر كنيسة الرسل اليهودية، كما أنه يستند بصفة أساسية إلى النجاح الذى باتت تحققه كنيسته فى ضم الكثيرين من الأمميين إلى الدين الجديد المرفوض إلى حد بعيد من اليهود، والأهم من كل ما تقدم أنه كان صاحب منظومة فكرية لم تكن عند منافسه يعقوب، وبالمناسبة هو يذكرنا بموقف معاوية إبن أبى سفيان فى صراعه مع على.
وانعقد أهم مجمع فى التاريخ ووصل إلى نتيجة مرضية للطرفين باعتبار توازنات القوى بينهما، وهو أخيرا يذكرنا بهزيمة على بن أبى طالب فى حربه ضد معاوية إبن أبى سفيان، لا لأن معاوية صاحب حق ولكن لأنه صاحب ثروة ودهاء، وهو ما يؤكد لنا أن الحق لا ينتصر لأنه حق، بل ينتصر لأنه يستند على القوة قبل الحق، وهكذا صدر قرار المجمع المسكونى الأول كالتالى:
“لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلا أكثر، غير هذه الأشياء الواجبة: أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق، والزنا، التى إن حفظتم أنفسكم منها فنعما تفعلون”.( أع 15- 28: 29 ).
وكانت هذه النتيجة تعنى أن الدين المسيحى هو ديانة مستقلة عن الديانة اليهودية القديمة، وبالتالى فغير مطلوب من الأعضاء الجدد أن يقطعوا جزءا من عضوهم الذكرى مثلما يفعل اليهودى الورع كعلامة إيمان بالرب يهوه، وفى المقابل يبدو أن بولس قد تعهد للشيوخ فى أورشليم أن يمدهم بمساعدات مادية منتظمة على شرط أن يعينوه بقرار كنسى كرسول للأمم فى حين يظل بطرس رسولا لليهود، وفى هذا التغير تحديدا إنتصار لفكرة بولس المنادية بفصل المسيحية عن اليهودية، وهاهو قد نجح فى إصدار قرار الإنفصال من الرسل والمشايخ ووقع عليه أخو الرب شخصيا، ثم طلب المجمع- على إستحياء- من الأعضاء الجدد أن يمتنعوا عن الزنا وماذبح للأصنام والمنخنقة والدم، أى تطبيق بعض الشعائر الدينية اليهودية كنوع من أنواع الإرضاء للرسل المتمسكين بدينهم القديم كما فهموه من تعليمات السيد المسيح، ولكن حتى هذه المداهنة لم تكن كافية لوصل اليهودية مع المسيحية، ومن ثم نستطيع إعتبار أن نتيجة المجمع كانت إنتصار فكرة بولس الرسول والقضاء على فكرة الرسل والحرس القديم، ومن يومها صارت المسيحية ديانة مستقلة بعد أن حدث الطلاق بينها وبين اليهودية فى مجمع أورشليم، قد يستهين بعض العقلاء من أن تتسبب غرلة حقيرة لا نفع منها فى الإنفصال بين الأديان الكبرى، ولكن للأسف هذه هى الحقيقية التى لا ينكرها أحد أن الغرلة أو الختان كانت السبب فى الطلاق والإنفصال بين اليهودية والمسيحية.




يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى