كتّاب

هكذا كنا نلهو ونصطاد أسماك النيل:…


هكذا كنا نلهو ونصطاد أسماك النيل:
منذ نحو ستين عاما كانت بلدتنا الباجور منوفية شديدة الهدوء والأمان فعدد السكان قليل، وجميعهم معروفون، وليس من السهل أن يتوه طفل ولا حتى عنزة، وهكذا أصبح مسموحا لنا منذ نعومة أظفارنا فعلا بقضاء معظم أيام الصيف فى الغيطان وعلى شاطئ الترعة (الباجورية)، وبالتأكيد توفر لنا تلك الغيطان من الأدوات والميادين مايهيئ لنا ممارسة أشكال من اللهو والعبث والمتعة والشقاوة وقضاء أوقات فراغنا، فنحن فى أيام الصيف الحارة نصطاد الطيور كاليمام والعصافير والغربان والهداهد وربما الصقور، نذبح ونأكل مايؤكل.. ونحاول أكل مالايؤكل منها أو تحنيطه.. ونطارد الفراشات وأبو دقيق وأبو النطيط والدبابير والجراد والضفادع، ونتسلق الأشجار لنصل إلى أعشاشها ونختلس ما بها من بيض وأفراخ صغيرة، ونتسلق النخلات وأشجار التوت والنبق والجميز والمخيت لنجمع ثمارها الطازة واللذيذة ونأكلها، كنا نأكل كل شئ لا يمنعنا من الأكل إلا مالايستساغ ولا يمكن ابتلاعه، أو نتسلل إلى حدائق العنب الأرضى وأشجار المانجو، أو نختلس ثمار الخيار والبطاطا ورؤوس البصل واللفت وأعواد السريس من الحقول حتى يرانا أصحابها فيطاردوننا والويل لمن يقع بين أيديهم، ويفرح الفلاحون بركوبنا النوارج وهى تدرس القمح، او الجلوس على التروس الأفقية للساقية وهى تدور اذ يتكفل ضجيجنا بمنع الجاموسة التى تدور بها من الوقوف، وعندما تشتد الحرارة يأتي وقت العوم في الترعة فنخلع ملابسنا القليلة ونقفز إلى الماء عرايا كما والدتنا أمهاتنا.. فنغطس ونتسابق ونستعرض مهارتنا في البحث عن الأشياء الغارقة في قاع الترعة.
ولكن كانت أحب الهوايات لقلوبنا “صيد السمك” التى كانت يوفر لنا الفرصة لتنافس شريف حول الحظ والمهارة، كما تشبع غريزة القنص الذكورية البدائية عندنا، وهى إلى ذلك قد توفر لنا “عشوة” حلوة وخاصة إذا لم يكن فى البيت إلا الفول المدمس أو العسل الأسود، والجبن القديمة أو القريش، وكنا نصطاد السمك بطرق متنوعة ومختلفة،
وكانت أهم تلك الطرق الصيد بالسنارة، ولم تكن أدواته تزيد عن بوصة جافة وفتلة خيط “منجد” وسن صغير كنا نشترى الثلاثة منهم “بتعريفة” خمس مليمات ونختار الأماكن العميقة نوعا كمداخل السواقى وتحت الكبارى، وكانت أهم أنواع الطعم “ديدان الأرض” التى نحصل عليها بالحفر فى الطين حول الطلمبات والحنفيات والقنى، وكان العجين والقمح المبلول الطرى من الطعوم الجيدة وقد رأيت من يصطاد ببعض الحشرات،
ومع هذا كانت طرق شديدة التنوع للصيد منها صيده من بعض البرك الصغيرة فى الأرض المجاورة للترعة ويطلق عليها “طرح البحر” إذا قد يرتفع منسوب المياة ليغطى تلك الأرض ويملأ منخفضاتها ثم ينسحب مخلفا فى البرك بعض الأسماك التى تكون قد نامت وغفلت عن الانسحاب مع المياة إلى مجرى الترعة العميق، وبمجرد تعكير ماء تلك البركة تضطر الأسماك إلى أخراج أفواهها من الماء لتستكمل نصيبها من الأكسجين الذى حالت عكارة الطين دون منحها أياه،
وعلى حواف الترعة كانت تنمو بعض العشاب التى ينزل جزء كبير منها إلى الماء، فكنا نتقدم من قلب الترعة الى تلك الأعشاب ونضع أذرعتنا تحتها وفى وقت واحد نقلبها إلى خارج الماء بما كان فى قلبها من أسماك ونخرج السمك من بين اعوادها كمن يفلى رأسا عامرة،
وكانت الترع المختلفة تأتى فى نوبات، طبعا تذكرون نخفيض نوبة الرى من عشر أيام لخمس أيام فى فيلم الأرض، كانت عندما تتوقف النوبة ولم يعد فى قاع الترعة إلا شبرين أو ثلاثة من الماء نتقدم فى جماعة وفى اتجاه واحد ومن خلال الضجيج وتعكير الماء باقدامنا يفزع السمك الساكن ويسرع للاختباءفنلمحه ونكبشة بأيدينا من حجوره ومن بين الطوب وتحت الأحجار وجذور النباتات، ويكون محظوظا من يصادف بلاصا أو صفيحة ملقاه فى الترعة فيجد فيها عددا كبيرا من “القراميط” فهى تحب أن تأتنس ببعضها داخل أوعية القيعان، وأحيانا ننزل إلى الترعة ونمشي متواجهين من مسافة بعيدة نسبيا ونحن نثير الجلبة التى تزعج الأسماك فتنطلق أمامنا ونقترب حتى يبقي مابيننا مسافة نحو خمستاشر إلى عشرين متر، ولم يكن عرض هذا القاع يزيد كثيرا على ثلاثة أمتار، وبسرعة يعمل كل فريق بسرعة حاجز من طين الترعة ونقوم “بنطل” الماء من داخل الحادز الى خارجه، بكفوفنا وبقعر بلاص مكسور وصفيحة، حتى إذا لم يبق فى قعر الترعة إلا سنتيمترات معدودة تظهر لنا ظهور الأسماك، وأفواهها، فننقض عليها،
كما كنا نصطاد الأسماك بال”مشنة” أو الشاش، عندما نلقي فى الماء ببعض القمح أو الطعم فيتجمع حولها السمك
أما آخر تلك الطرق التى عاصرتها طفلا صغيرا فكان الصيد من طمى النيل الأحمر الطوبى الذى يأتى مع الفيضان قبل أن يتوقف ويترسب خلف السد العالى إذ كان يترسب شبرا أو أكثر فوق قيعان الترع، وعندما تعبث أقدامنا العارية فى ذلك الطمى تشعر بأشواك السمك الذى “كتفها” الطمى ومنعها من الحركة فنغطس لألتقاطها
وما كان أجمل من أن نجمع تلك الأسماك فيما يسمى “مُشكاك” وهو فتلة صغيرة تمتد بين “شطيتين” ندخل إحداها فى خيشوم السمكة وتخرج من فمها، وتمنعها الشطية الأخرى من السقوط، أنواع شهية ومحبوبة: بلطي وقرموط وشال وبياض وثعبان وقشر بياض وبني وقرقور.. وعرسة وكلب ورعاش وشلباية وبساريا.. وانت ورزقك.. نعود به إلى بيوتنا قبل مغيب الشمس لنأكل أشهى وأطعم أسماك لم ولن ننس طعمها الحلو رغم تغير الأحوال ومر السنين
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى