هذه هى الكلمة التى القيتها فى مؤتمر لا لمحاكم التفتيش فى…


هذه هى الكلمة التى القيتها فى مؤتمر لا لمحاكم التفتيش فى العام الماضى:
كثيرا ما نعيب زماننا ونسميه الزمن الردىء.. وكثيرا ما نكون محقين فى ذلك. وأنا اعتبر اننا نعيش هذه الأيام حقبة انحطاط فكرى وثقافى وإنسانى لم تعرف مصر مثلها منذ اكثر من قرن كامل.. ومع ذلك تعالوا نضع الأمور فى إطارها التاريخى حتى نعرف أين نقف الآن. فتعبير محاكم التفتيش الذى اختاره منظمو هذه الندوة عنوانا لهذا اللقاء يستوحى حقبة العصور الوسطى الأوروبية فى زمن كان فيه رجال الدين والكنيسة يسيطرون سيطرة كاملة على حياة الناس السياسية والشخصية والاجتماعية وكان الملوك والأمراء يعتبرون أنهم يحكمون بإرادة السماء وبتفويض من الرب. وكان اسم رئيس محاكم التفتيش القس توركيمادا يثير الذعر فى قلوب الناس فى أوروبا آنذاك. ولا أراكم الله ما كان يحدث من عمليات تعذيب وحرق وذبح لكل من تسول له نفسه أن يستخدم عقله ويخرج ولو قيد أنملة عن تعاليم الكنيسة الحديدية وقد أتيح لى أن ازور فى قصور أوروبا القديمة غرف التعذيب والآلات والأدوات المخيفة التى كانت تستخدم لإجبار الناس على الاعتراف وعلى إنكار عقائدهم.
وكما تعرض رواد حرية الرأى مثل يان هوس وجوردانو برونو وآلاف غيرهم للحرق والقتل والتنكيل ومنهم العالم العظيم جاليليو الذى افلت من الحرق بإعجوبة.. كذلك لم يسلم عالمنا الإسلامى من محاكم تفتيش لا تقل قسوة وهمجية وسقط آلاف الشهداء من أجل حرية الكلمة وحرية الإبداع مثل ابن المقفع والحلاج وبشار بن برد والقائمة اكبر كثيرا من ان تتسع لها هذه الكلمة الموجزة. وكان احد كبار رجال الدولة يدعى صاحب الزنادقة مهمته كشف وقتل كل من يخرج بكلمة واحدة عن العقيدة الرسمية للدولة وكان مفوضا من معظم الخلفاء يأخذ الناس بالظنة أى أنه يقطع الرؤوس بمجرد الشك ودون الحاجة إلى أدلة وبراهين.
ويتضح لنا من هذا الاستعراض التاريخى الخاطف أننا الآن محظوظين.. نحن نجنى ثمار التضحيات والبطولات التى اضطلعت بها أجيال سابقة. فدماء شهداء الرأى وضحايا حرية التعبير حفرت نهر الحرية الذى نجاهد للإبقاء عليه اليوم والذى يرتعب منه أنصار التيارات الدينية المتطرفة ويقض مضاجع أى حاكم متسلط وكل هؤلاء يسعون لتجفيف منابعه. لكن نهر الحرية فى حاجة إلى أن يرتوى على الدوام بتضحيات رجال ونساء يقدمون انفسهم قرابين لحرية الرأى والعقيدة. فصحيح أن محاكم التفتيش التى نشكو منها اليوم لم تعد تحرق وتعذب لكنها تعمد إلى القتل المعنوى والسحل النفسى والإعدام الاجتماعى.
والسؤال هو: هل تخلصت أوروبا من محاكم التفتيش عن طريق حمل السلاح وقتل رجال الدين والثورة ضد الحاكم الظالم فقط؟ إطلاقا. فأهم سلاح تخلصت به من محاكم التفتيش هو نشر الفكر التنويرى والأدب والفن من خلال عمالقة من أمثال دانتى وشيكسبير وموليير ولوك وفولتير وروسو. هذا هو طريق الخلاص والتحرر وهذا هو سبيل كفاحنا ونضالنا فى المرحلة القادمة.
وبينما اختفت محاكم التفتيش فى أوروبا منذ قرون تعرض أصحاب الرأى فى العقود الأخيرة عندنا للبطش ولحملات أدت إلى قتل بعضهم مثل الراحل فرج فودة وتشريد البعض الآخر مثل نصر حامد ابو زيد وتكميم أفواه الآخرين ولعل آخرهم الأستاذ إسلام البحيرى.
وقد تعرضت مرتين فى حياتى لهجوم صاروخى كاسح من انصار التيار الدينى المنغلق الأول عام 1994 عندما نشرت كتاب “يسقط سيبويه” فاتهمنى رجال الظلام بأنى أسعى لهدم القرآن الكريم من أساسه اللغوى الإعجازى وصدرت مئات المقالات وأربعة كتب لم يكتف اصحابها بدحض حججى وهو أمر طبيعى بل اتهمونى بالكفر والزندقة.
اما الثانية فكانت فى النصف الأول من هذا العام عندما أطلقت دعوتى لخلع الحجاب ووجهت تلك الدعوة للفتيات والنساء اللاتى تردين الحجاب قهرا وإجبارا وخوفا وحرصا على سمعتهن فى مجتمع يعانى من عقدة المرأة. قامت قوى الظلام بتجنيد رجالها وتجييش خلاياها النائمة والمستيقظة فأشعلت ردود افعال لم أكن أتوقعها منها التكفير والتهديد بالقتل فأدركت أنى لمست العصب الحى لمجتمع يعيش ويتغذى منذ اربعين عاما على دعاية دينية مدمرة للعقل تقوم على الانغلاق والغلو وكراهية الآخرين وتشوه صورة ديننا الحنيف فى عيون العالم اجمع.
إلى متى تظل الدولة ضعيفة ومتخاذلة إزاء قوى الغلو والتطرف ويظل همها الأول هو مجرد منع التيار الدينى المتطرف من الوصول إلى الحكم دون التصدى لجذور هذا الفكر الذى ينخر فى جسد المجتمع؟ إلى متى تظل الدولة خائفة من الكلمة ومن الرأى ومن الإبداع؟ طالما لم يفهم القائمون على الحكم أن المعركة الحقيقية هى معركة فكرية وعقلية وثقافية.. وطالما لم يعملوا على استئصال الإرهاب الفكرى والتطرف والكراهية من داخل العقول والضمائر وطالما ظلت مقولة تجديد الخطاب الدينى شعارا نظريا أجوف سنظل نعانى من شبح محاكم التفتيش.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version