كتّاب

نسخة صغيرة من الإسلام…


نسخة صغيرة من الإسلام
ـــــ

بعد وفاة النبي محمد انقلبت الجزيرة العربية على دولة العرب الأولى، ولم يتبق لدى تلك الدولة خارج العاصمة سوى مكة وثقيف [1] . اتجهت القبائل المسلحة إلى المدينة، مستغلة خروج الجيش العربي لمواجهة الروم، وحاصرت العاصمة. خاض الخليفة أبو بكر معركة مصيرية، بالاستعانة بمن بقي معه من الصحابة، لم يتخلف منهم عن خوض تلك المعركة المصيرية سوى المسلمين من بني هاشم. استطاعت الدولة الناشئة امتصاص الصدمة الأولى، ثم بادرت إلى خوض معركة شاملة في الجزيرة العربية لاستعادة السيادة، ولتأمين حدودها الواسعة. فقد تأكد للحاكم، آنئذٍ، أنه لا يمكن للعرب أن يخوضوا مواجهة مصيرية مع أكبر إمبراطوريتين في ذلك الزمن إلا بعد تأمين الجزيرة العربية من الداخل.

يعود ابن تيمية، في الفتاوى، إلى تلك المعركة ويذهب بعيداً إلى الاعتقاد أنها حدثت، فقط، دفاعاً عن فريضة الزكاة. ستبني الحركات الإسلامية العنيفة، في كل العصور، على الفكرة تلك، وستشتعل حروب أهلية داخل المجتمع المسلم / العربي دفاعاً عن الفرائض. سيذهب محمد فرج في “الفريضة الغائبة”، وفرج هو مؤسس واحدة من أكثر جماعات القرن الماضي عنفاً، حد القول بوجوب قتال “العدو القريب”. العدو القريب عند فرج هو الدولة العربية العلمانية والمجتمع المسلم الذي لا يخضع بصورة شاملة لشريعة الله. شريعة الله، كما يراها فرج، هي مدونة الحدود. والحدود في القرآن، كما يذهب محمد عمّارة، تشكّل أقل من 2 في المائة من حجم القرآن خطاباً ونصّاً.

كما فعل ابن تيمية سيلتفت فرج إلى معركة الدولة العربية الأولى مستنتجاً جواز حرق المرتدين، سمل أعينهم، وإلقائهم في البئر. ما من دوافع عسكرية، أمنية أو سياسية لحروب العرب الأولى، عند فرج. فهي معارك جرت دفاعاً عن الفرائض أولاً، ثم ستجري حماية للحدود، أي لمنع الخمر والزنا.

اتفق فرج مع سيد قطب حول ضرورة أن يفتح المسلمون الطريق للدعوة بالسيف، بالبدء بمباغتة المجتمعات العربية. كان حسن البنا، في رسائله، يقول إن المجتمعات العربية لا تزال مسلمة، مستدلاً بالطقوسية الدينية التي تهيمن على يوميات المصري الاعتيادي من الأسماء حتى الشعائر. يستلم قطب الفكرة تلك ثم يقلبها رأساً على عقب، مستخلصاً: إن كل ذلك التمظهر الإسلامي المصري لا ينفي كون المجتمع جاهلياً. كان البنا، كما في رسائله، يرى أنه من الجيد أن تحافظ جماعته على حقيقتها الصوفية. وعند قطب كانت الجماعة قد صارت إلى فيلق دولي مهمته محاصرة العالم وضربه بالمنجنيق إن تلكّأ في الخضوع.

في معالم على الطريق شكك قطب في إمكانية أن تحقق الدعوة إلى الله، عن طريق الخطاب والنموذج الأخلاقي، نجاحاً. مهمة المسلم في هذه الحياة هي جلب الناس إلى شريعة الله وإرغامهم عليها، يرى قطب. يشك قطب في قدرة الكلمات، فالجاهلية لن تسلِم القياد بيسر. لا بد من تطويعها عبر السيف، يقول. من وقت لآخر يتساءل: ما الجاهلية؟ ثم يجيب نفسه: هي كل المجتمعات على وجه الأرض. يرفض قطب فكرة وجود مجتمع خير في العالم، كلهم جاهليون، ولا بد من اختراع طريق لإعادتهم إلى الجادة القويمة.

في آخر أعماله، معالم على الطريق، ينادي قطب بإخضاع كل مجتمعات الأرض لدين الله، بكل الوسائل. في التوسِعات النظرية التي قدمها فرج فإن مهاجمة الدولة العربية، ممتلكاتها وجيوشها، هي أولوية قصوى لدى الموحدين. في هامش تنظيراته ينادي بتجنيب الأطفال الضرر.

يتفق الرجلان، فرج وقطب، على اعتبار المجتمعات العربية جاهلية. نادى قطب بإعادة تشكيل نواة المجتمع المسلم من جديد، بالنظر إلى أن ذلك المجتمع لم يعد له وجود. أما فرج فشكل الجماعة التي أطلق عليها إعلامياً “رجال الكهف”، والتي ستنقطع عن المجتمع المصري داخل نظام من العزلة الشاملة. الفكرة الجهادية التي ابتكرها قطب، بعد عملية فكرية تلفيقية جمعت ما بين محمد عبد الوهاب والمودودي في نظام واحد، ستقود إلى فرج، وداخل مفاعيلها سيقتل السادات.

نشأ الإسلام الموازي باكراً في التاريخ، منذ لاحظ المفسرون القدامى المسافة الشاسعة بين آيتين: “فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد” من سورة التوبة، والآية القائلة “وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إن اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها”، من سورة الكهف. ففي حين تبدو الآية من سورة التوبة مرتبطة بسياقها التاريخاني، حيث المسلمون يخوضون حروباً صغيرة أو كبيرة على أطراف دولتهم الناشئة، فإن الآية من سورة الكهف تأتي خارجة عن السياق التاريخي، مستندة إلى اللازمان، لتقرر موقفاً ختامياً.

بالعودة إلى الطريقة التي تعامل بها أشهر مفسرو القرآن مع الآيتين يجد الباحث نفسه أمام نقاش لم يغادر الكلمة ومعناها. قد انشغل المفسرون في البحث عن ماهية الأشهر الحُرُم المقصودة بالآية، نائين عن مسألة “القتل/القِتال”، لا متحدثين عن ظروفها ولا شروطها ولا موقعها من نظام التسامح الذي يصر القرآن، تكراراً، على تأسيسه. تدخل ابن عباس قائلاً إن هذه الآية تنقض ما كان النبي قد سمّى “للمعاهدين” من العهد والمواثيق. يستريح القرطبي في تفسيره لكلام ابن عباس، ثم يؤكد قائلاً إنها آية تجيز قتل المشركين “بأي وجه كان” [2].

الجماعات العنيفة التي ستنشأ في كل الأزمنة لن تضيف كثيراً إلى ما قاله الرجلان، ابن عباس والقرطبي. فالأول يقول إنها آية وضعت حداً لفكرة التعايش السلمي مع الآخرين ودشنت عهداً جديداً أساسه الحرب الشاملة، على أساس ديني، قائلاً إن توقفَ الحرب مشروط بدخول الآخرين الإسلام. القرطبي، أحد أهم مفسري القرآن، سيجعل القتل “بأي وجه كان” هو المبدأ التشريعي الذي أسسته هذه الآية، وهي غير محدودة بزمن. الآية، عند الرجلين، تقرر موقفاً ختامياً: إسلام العالم، أو إخضاعه بالقوة للإسلام. ما من طريق إلى معاهدات جديدة، يذهب ابن عباس[3] .

قرأ المفسرون الأوائل الآية من سورة كهف، آية الحرية الدينية الشهيرة، وتجاهلوا مضمونها بصورة لافتة منخرطين في جدل لغوي حول معنى “السرادق”. في الفلسفة التفسيرية لدى الآباء المؤسسين لذلك العلم كانت الآية تنسخ أختها، إذا استغلق عليهم الفهم. هُنا آية القتال تنسخ آية السلام وليس العكس.

في القرن الثامن عشر ابتكر محمد بن عبد الوهاب، توفي ١٧٩١م، فكرة الجاهلية. بالنسبة لابن عبد الوهاب فقد كانت مجتمعات الجزيرة العربية، الغارقة في الجهل والخرافة، تعيش مستسلمة لكل نواقض العقيدة. التطوير السلفي على مشروع محمد بن عبد الوهاب أبقى المسألة ضمن حدودها العقدية، ولم يقترب من مسألتي الحكم والجهاد. ارتبط الخطاب السلفي بفكرة “الفتنة”، نائياً بنفسه عن الجهادية ضد المجتمع المسلم أو الدولة العربية بصرف النظر عن طبيعتها. المجتمع المسلم المعاصر لا يزال جاهلياً، في التفكير الحجازي، أما الدولة فهي قدرٌ من الأقدار، وهي ظالمة على كل حال، ولا ينبغي المساس بها اتقاء للفتنة. أبقى الحجازيون على المسألة في حدود التشخيص النظري: المجتمع غارق في الشركيات، الدولة غارقة في الظلم. حيال المسألة الأولى هُناك الدعوة، وأمام الثانية الطاعة. بينما شق الفكر الديني المصري طريقاً وعراً قائلاً إن الدولة والمجتمع جاهليان، وأن فكرة الفتنة تضاهي الاستسلام، وليست من مهام المُسلم أن يستسلم.
حاول حسن الهضيبي إيقاف عجلات قطب، فأصدر “دعاة لا قُضاة”[4] لكن العجلات الجهادية استمرت في الدوران.

ففي أعالي التيار، في التاريخ البعيد، توجد النصوص التي تتحدث عن القتل ببساطة متناهية. منذ الأيام الأولى نشأ إسلام موازٍ، وجد في عبارة “إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد” مانيفستو لقتال الدول، أولاً، ثم المجتمعات ثانياً. ذلك ما سيستفيض قطب في شرحه وتنضيده في مقدمته الشهيرة أمام سورة الأنفال. يعثر القارئ على نسخة صغيرة من الإسلام، تتجاهل الموروث العملاق من الآداب والعلوم والفنون، مختزلة إياه إلى مدونة محدودة اسمها الشريعة. والشريعة في الخيال الإسلاموي ليست سوى منظومة للعقوبات والحدود، نسخة مختزلة من الإسلام غير معنية بفلسفته ورؤيته الكلّية للعالم.

ــــــ

1- تاريخ ابن خلدون، المجلد الثاني، صفحة ٤٩٠
2- تفسير القرطبي، تفسير سورة التوبة، الآية ٥
3- المرجع السابق
4- صدرت الطبعة الأولى من الكتاب سنة ١٩٧٧، بعد تسعة أعوام من تأليفه. ثمّة شكوك حول مؤلفه الأصلي. يدّعي اللواء فؤاد علّام في كتابه “الإخوان وأنا” أن وزارة الداخلية طلبت من علماء أزهريين وضع الكتاب وجعلت الهُضيبي يصدره باسمه. وثمّة من ينسبه إلى الشيخ الأزهري علي عبده إسماعيل، الذي دخل في سلسلة من المراجعات الذاتية وتخلّى عن التنظيم الراديكالي “جماعة المؤسسين” وكان قد أسسه عقب مقتل شقيقه إلى جوار قطب ضمن محاكمات العام ١٩٦٦.

* المقالة من كتابنا الذي يحمل عنوان “على مقام العجَم”، قيد الإنشاء.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫49 تعليقات

  1. (فإن الآية من سورة الكهف تأتي خارجة عن السياق التاريخي، مستندة إلى اللازمان، لتقرر موقفاً ختامياً).

    فعلا اسم الكتاب مناسب جدا (علىٰ مقام العجم)؛ لأن العرب لا تفهم هذا الفهم (الأعجمي) لهذه الآية.

    تحياتي

  2. تعليق الاخ السياب بدر شاكر يمثلني تماما و فعلا ( اطربتنا على الصبا وشكله العجم سيسكر عقولنا او يسحرها .. الله المستعان !
    يبقى خبر كتابك القادم اجمل خبر سمعته منذ ان اعلنت نشر كتابك على مقام الصبا !
    بالتوفيق )

  3. ((خاض الخليفة أبو بكر معركة مصيرية بمن بقي معه من الصحابة لم يتخلف منهم عن خوض تلك المعركة المصيرية سوى المسلمين من بني هاشم)). ويستمر الضرب تحت الحزام..

  4. رؤية علمانية لجزء من التاريخ الدولة الإسلامية وعلاقتها بالشريعة وتطبيقاتها السياسية وكأن الدكتور أصبح هو الحكم اللذي يحدد ما هو الصواب وما هو الخطأ فيما فعله الصحابة ومن جاء بعدهم ..
    { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) }
    الحج[ 41 ]
    بواسطة تطبيق القرآن العظيم

  5. اطربتنا على الصبا وشكله العجم سيسكر عقولنا او يسحرها .. الله المستعان !
    يبقى خبر كتابك القادم اجمل خبر سمعته منذ ان اعلنت نشر كتابك على مقام الصبا !
    بالتوفيق

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى