مقدمة كتاب على مقام الصبا…


مقدمة كتاب على مقام الصبا
ـــــ

تبدو سيرة علي بن أبي طالب أكبر حجماً، وربما شأناً، من سيرة الإسلام. وفي بعض مراحلها فإنها تبتلع الإسلام ثم تقذفه وقد تغيّرت ملامحه الأساسية. منذ الأيام الأولى لوصول عليّ إلى الحكم قرّر تنحية الدبلوماسية جانباً والمبادرة إلى السيف. والسيف، كعادته، يفلق الشيء إلى نصفين. والسيف، كما هي طبيعته، يجلب السيوف. كان سيف علي من شعبتين، كما تصفه كتب التاريخ الشيعية والسنية. الوصف الذي يقدمه المؤرخون الشيعة لسيف عليّ ذي الشعبتين يكاد يتطابق مع وصفهم لخنجر أبي لؤلؤة الذي أودى بحياة الخليفة عمر بن الخطاب. في آخر المطاف فإن خرافة ذي الفقار، السيف الذي جاء به آدم من الجنة ويُقال نزل به جبريل، ليست أكثر من قصة رمزية عمّا فعلته حروب علي بالمجتمع المسلم: شطرته إلى نصفين.

بين وفاة النبي محمد ووصول علي إلى الحكم خمس وعشرون عاماً لم يخض فيها عليّ حرباً واحدة. اعتزل حروب فرض هيبة الدولة، تلك التي تنعت بحرب الردة، كما تخلّى عن “الفتوحات” في الشمال. خلال ربع قرن يكاد المرء لا يعثر على خبر موثوق عن عليّ بن أبي طالب. وما سيقال عن ممارسته للفقه والتعليم الديني في غيبته الكبرى تلك ليس أكثر من لغو خارج السياق التاريخي، يهدف إلى تشتيت الأنظار. هل مكث عليّ لربع قرن يزيّت ذا الفقار ويجهزه لحروب في ظهر الغيب؟ كان عليّ مسلماً اعتيادياً، لم يكترث القرآن لوجوده، وكان ذلك موقف كبار الصحابة. إذ استطاع أبو بكر أن يسيطر على الجزيرة العربية خلال أقل من عام دون الحاجة لأي عون من بني هاشم. وذهب عمر وعثمان يخوضان كبرى الحروب في الشرق والغرب دون أن يجعلا في مقدمة الجيوش أياً من آل بيت رسول الله. في الحروب الداخلية فقط، مواجهة المسلمين بالمسلمين، كان بنو هاشم يكونون في المقدمة، وتلك مسألة تؤكدها كتب التاريخ على اختلاف فلسفتها وأزمنتها. فالهاشميون لم يذهبوا إلى الحرب في الشام إلا متأخرين حين كانت قد أصبحت بلاداً مسلمة.
سمع المسلمون اسمي عيسى ومريم في القرآن زهاء خمسين مرّة، وقرأوا سورة من السبع الطوال تحمل اسم عائلة مريم. ما من إشارة واحدة لآباء النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ولا لذريته. من المهم أن يعرف المسلمون عن عيسى وأمّه الكثير، أن يتعلموا من حقبة شديدة الأهمية في تاريخ الرسل، فالبشر كما الرسل يتشابهون. ما الذي سيتعلمه عرب الجزيرة من تاريخ بني هاشم؟ وكيف سيقنعهم الإسلام بنظريته في العدالة إذا كان سيقسمهم إلى أسياد هاشميين ومسلمين عاديين.

في الكوفة، وعليّ عالق بين الحرب والسلام، يعاتبُ شعبه قائلاً إن تقاعسهم عن خوض الحرب إلى جواره من شأنه أن يؤكد ما تعتقده قريش عنه، أنه ليس برجل حرب. كان ابن عبّاس قد صارحه بذلك قبل خروجه إلى الكوفة. نصحه بالميل إلى الحوار والدبلوماسية، وبرّر نصيحته بأمور كثيرة منها افتقار علي إلى الدراية بالحرب. لا يوجد ما يمكن وصفه بالتاريخ العسكري لعلي بن أبي طالب. أما مديح الفروسية الذي أغرق المكتبات فلا يجد ضالته سوى في خرافتين اثنتين: الأولى في معركة الخندق، حيث المحارب الوهمي المسمى عمرو بن عبد ود. والثانية من حصار خيبر، حيث يفتك عليّ بفارس شبه وهمي اسمه مرحب، ويرفع باب حصن وهمي بيد واحدة. لخيبر ثلاثة عشر حصن، يفصلها عن بعضها وديان وجروف، بيد أن الخرافة جعلتها حصناً واحداً ووضعته في قبضة علي. دفعتني خرافة البطل إلى تتبع باقي الأكذوبات: الحكيم، الفقيه، وسواها. مما حاجج به معاوية، في رسالته الشهيرة، أن سبب رفضه لولاية عليّ يعود إلى تجاهل الشيخين، أبي وبكر وعمر، لأبي الحسن. لم يقدماه في شيء ولم يستشيراه في شأن، تقول الرسالة، ما يعني أنهما لم يريا فيه ما يكفي من الجدارة. حجاج معاوية ذاك، في رسالته إلى محمد بن أبي بكر، سيعززه ابن تيمية في منهاج السنّة قائلاً إن أهل المدينة لم يكونوا يأخذون العلم عن علي، وأن مناهلهم في الفقه ليس من بينها أبو الحسن.
إعادة تركيب الصورة الكاملة لعليّ بن أبي طالب تستدعي انتباها عالياً عند قراءة الرواية التاريخية. فما من مؤرخ، ربما باستثناء الجاحظ في العثمانية، تجرأ على القول إن عليّاً كان أقل جدارة من المسائل التي خاض فيها، العسكرية أو السياسية. بينما ذهب الجاحظ إلى طفولة علي وشبابه في مكة، ليقول لنا إن الرجل عاش هناك لا طالباً ولا مطلوباً، حين كان سائر المسلمين يلاحقون ويعذبون حتى الموت. يمرّ هذا الكتاب بتكثيف رأيناه ضرورياً على أبرز المنازل في درب عليّ بن أبي طالب، بما في ذلك خرافة نومه في فراش النبي ليلة الهجرة. كما يتتبع شكل العلاقة التي نشأت بين عليّ وشعبه في الكوفة، تلك التي بلغت حد القطيعة. حتى إنه ليمكننا القول إن عليّاً كان أول حاكم عربي خلعه شعبه. نتحدث هُنا عن شعبه في الكوفة، مركز عاصمته، لا دولة معاوية الموازية لدولته.

عاشت دولة عليّ وقتاً شديد القصر، ولم تعرف هدوءاً قط. الربع قرن الأول من حياة المسلمين بعد موت النبي كان قد مكّن الناس من استيعاب رؤية الإسلام المرتكزة في المقام الأول على المساواة والعدل. حين وضع عليّ قدمه في الرئاسة، قادماً من العزلة، فعل ذلك بوصفه ابن عم النبي، ومستنداً إلى سيوف المتمردين الذين فرضوا امتثالاً إجباريا في العاصمة.

تلك هي اللحظة الشديدة، لحظة زعزعة اليقين. الإسلام العادل والمحايد اتّسع فجأة لشيء من خارجه: الأفضلية لمن تربطهم بالنبي قرابة دم. خلاف ذلك كان قد استقر في ضمير المسلمين حين بقي بنو هاشم صامتين، وحين تحدثوا أخيراً فقد ألبسوا على المسلمين دينهم.

لم تستثر تلك اللحظة المسلمين من خارج بني هاشم وحسب، بل زوجات النبي في المقام الأول. رأينَ أن العائلة ذاهبة، بإصرار منقطع النظير، في سبيل اختطاف النبي واحتكاره. وقبل أن تصادم نظرية الحق الإلهي، التي استند إليها عليّ، سائر المسلمين كانت قد صادمت زوجات النبي، وكلّهن آنذاك من خارج السلالة. كانت زينب، زوجته الوحيدة من العائلة، قد توفيت في زمن عثمان. انقسم الناس حيال رئاسة علي إلى مؤيدين، معارضين، وممتنعين. وانتظروا جميعاً نتيجة أول حرب أهلية سيخوضها علي: في مواجهة زوجة النبي. كان في المدينة آنذاك عشرون ألفاً من أصحاب رسول الله، وثمّة طبقة مرموقة يقال لها كبار الصحابة، من أهل الحل والعقد والنفوذ الأخلاقي. من تلك الطبقة الرفيعة لم يخرج مع علي لمواجهة أم المؤمنين عائشة سوى رجلين، ويقال أربعة. كان عمّار بن ياسر أحد الرجلين، وهو صحابي نهره أبو موسى الأشعري، في العراق، صارخاً يا قاتل عثمان. رد عمّار بالقول إنه لم يفعل وأن الأمر لم يسؤه.

بدا واضحاً منذ اللحظة التي عجز فيها عليّ عن حشد ألف محارب من المدينة ومكّة، وهو يتحضر لملاقاة عائشة، أن الرجل قد وضع قدميه في طريق المتاهة. همس له ابنه الحسن، وهما في الطريق إلى العراق، معاتباً إياه: لولا استمعتَ إليّ. كان قد نصحه باعتزال الناس والأحداث، وأن لا يفرض نفسه على مجتمع ليس في حاجة إليه. حذره، بصراحة أغضبت الأب، من الموت في مضيعة من الأرض. تلك المضيعة من الأرض اتخذها عليّ عاصمة له. مثّل قرار نقل العاصمة إلى الكوفة زلزالاً لا يقلّ وزناً ونوعاً عن قرار تحويل القبلة إلى مكّة. بعد مقتل عليّ فقدت الكوفة تلك المكانة إلى الأبد. إذ أدرك الأمويون، ومن بعدهم العبّاسيون، أن تلك الحاضرة التي نشأت بفعل الحروب لا يمكنها إلا أن تكون أرضاً للحروب. والكوفة، كما سنبيّن في الكتاب، كلمة تعني المعسكر. ومع الأيام ستمثل ثقباً أسود لحروب الطالبيين وطموحاتهم.

ومن حقّنا أن ندّعي أن كتابنا هذا توغّل بشجاعة وحذر في حقبة تاريخية شديدة التعقيد، وأنه رغم استنتاجاته العديدة قد خلق من الأسئلة أكثر مما قدم من الإجابات. كما أن الإسهام الأساسي الذي سيقدمه الكتاب، كما ندّعي، لن يكون في تغيير القناعات واليقين بل في زعزعة ذلك كله.

ــ

مروان الغفوري

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version