من العزلة إلى النكسة…


من العزلة إلى النكسة
—–

حين علم علي بن أبي طالب بأن عائشة وجيشها قد بلغا البصرة دعا إلى النفير العام في المدينة المنورة فاستجاب له أربعة من كبار الصحابة، ويقال ثلاثة: أبو الهيثم بن التيهان، أبو قتادة الأنصاري، وزياد بن حنظلة. اختلف المؤرخون في اسم الشخص الرابع. وفي المجمل حشد جيشاً قدّره الطبري في تاريخه بسبعمائة مقاتل، وعند ابن كثير في البداية والنهاية نحواً من تسعمائة [1]. هذه الصدمة المبكّرة ستفقد عليّاً الإحساس بالأمن وستدفعه إلى أحضان قطاع الطرق وتجعل منه أول زعيم يصل إلى السلطة على أكتاف المتمرّدين. تكرر هذا الخذلان مع علي مرّة أخرى بعد معركة صفّين حين دعا إلى الخروج بعد فشل عملية التحكيم غير أن أحداً لم يستجب له. وبعيد مقتله زحف جيش معاوية إلى العراق وعجز الحسن بن علي عن حشد ما يكفي من المقاتلة، قبل أن ينشق قائد جيشه، عبيد الله بن العبّاس، ويأخذ معه بضعة آلاف ليلتحق بجيش معاوية. وعبيدالله هو ابن عمّ النبي، وأحد كبار الهاشميين. بقي للحسن فلولٌ مبعثرة من الرجال الذين وعدوا أباه بالذهاب إلى الشام. كان الحسن أقل الهاشميين تشبّثاً بالحق الإلهي، وقد ضرب موعداً طويلاً مع الدنيا فمنحته ما يؤنسه من النساء والمال والجاه. دفعته الحقائق الأرضية إلى الاستسلام أمام جيش معاوية، والعودة بغنيمته الفردية إلى المدينة.

بالعودة إلى الحديث عن خروج علي من المدينة، يدنو الحسن من والده ويعاتبه “أمرتك يوم قُتل -يقصد عثمان- أَلا تبايَع حَتَّى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر”. كان الحسن أكثر قدرة على تخيل المآلات الكارثية لمغامرات الطالبيين كما سنوضح فيما بعد.

عجز عليّ عن تخيّل شكل المعضلة التي تورط فيها، فالدولة التي صارت إمبراطورية مترامية الأطراف لا يمكن أن تؤخذ في مداهمة ليلية بسيوف بضعة آلاف من المتمرّدين. كما أن تجاهل إرادة شعوب وأمم تلك الدولة العملاقة وإلغاء حقهم السياسي بالكامل بحجة أن “الأمر أمرُ أهل الْمَدينة” [2] ، كما حاجج عليّ، أفقرَ سلطته إلى المشروعية السياسية. الحاكم – وهو هنا علي- ليس نبيّاً مؤيداً من السماء، بل رجلاً من السياسة، والسياسة عملية جماعية تقوم على التوافقات والرضا. كان عليّ يخلط بين نفسه والنبي، ويرى لنفسه من واجب الطاعة والقداسة ما كان للنبي ذاته. لم يكن عليّ يملك النباهة الكاملة لفهم تلك المعادلات، وحين حذره ابن عبّاس من مغبّة الذهاب في ما عزم عليه راح يردّ قائلاً إنه لن يتخلى عن السيف. ومما عقد طريقه أكثر هو السيف نفسه، ذلك أنه كان قد هجره لربع قرن من السنوات، لم يقد فيها معركة ولم يشترك في مبارزة واحدة.

الحاكم الجديد لبلاد مترامية الأطراف، تجاوزت مساحتها ستة ملايين كيلومتراً مربّعاً، يلغي في طرفة عين الحق السياسي لسائر الأمم والشعوب التي صارت جزءاً من الدولة/ الإمبراطورية، متجاهلاً رأي أهل اليمن والشام ومصر وغيرها. ثمّ هو يفكر بالذهاب إلى الشام بجيش لا يبلغ الألف رجل، قبل أن يغيّر وجهته إلى العراق. تبدو رواية ابن كثير حول نقاش الأب والإبن أكثر ثراء ودلالة. عليّ يلتفت إلى ولده وينهره قائلاً “أما مبايعتي قبل مجئ بيعة الأمصار فكرهت أن يضيع هذا الأمر”. إن الأمر أمر المدينة، قال عليّ، ثم يختم نقاشه مع ابنه قائلاً “فإذا لم أنظر فيما يلزمني في هذا الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه؟”[3].

مسألتان تلفتان الانتباه هُنا: حاكم جديد يصل إلى السلطة لأول مرّة، يفسّر استعجاله طلب البيعة بينما البلاد غارقة في الهرج والمرج بخوفه من أن يضيع الأمر. مؤكداً: أنه اقتحم السلطة لأنها مسألة تلزمه وتعنيه. كان بالمدينة آنذاك عشرون ألفاً من صحابة رسول الله[4] ، وليس فيهم من أحد يرى السلطة تعنيه سوى علي بن أبي طالب. يؤكد ذلك ما حدث لاحقاً من عزوف كبار الصحابة عن مصاحبته إلى معاركه التي عزم عليها. كان الحسن يرى المآلات، قال لوالده”تقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك فيها”[5] ، ورأى الأب تفاهة في ما يقوله الولد “لا تزال تحنّ عليّ حنين الجارية”.

وهو يترك المدينة خلف ظهره، أو وهي تدير له ظهرها، اتخذ قرارين خطرين للغاية، على مرحلتين: المرحلة الأولى تعيين قثم بن العبّاس والياً على مكة، وتمّام بن العبّاس والياً على المدينة. فقد علي الثقة بنواتي الإمبراطورية الإسلامية فوضع عليهما ولدي عمّه، وهما غلامان ممن ولدوا بعد الهجرة، وكانا يفتقران إلى كل ما يحتاجانه لحكم قلب الإمبراطورية، عدا أنهما ابنا عم الحاكم. صدمت المدينة عليّاً كما صدمته مكة، ووجد نفسه وحيداً، يحمل على كاهله مشروعية ناقصة، وبيعة تسلّمها من اللصوص. في الطريق نزل بالربذة[6] إلى الشرق من المدينة المنورة، وجاء إليه الناس من بني أسد وطيء ومناطق أخرى. غادرها وذهب شمالاً، صار يملك جيشاً من بضعة آلاف ونزل في ذي قار جنوبي العراق [7]. من هناك دشّن مراسلاته مع أحد كبار الصحابة المبجّلين، وكان يمثّل تحدياً استراتجيّاً لما له من وزن أخلاقي ومعرفي داخل المجتمع الـمُسلم، فضلاً عن خبرته السياسية والعسكرية. اسمه أبو موسى الأشعري وسبق له أن حكم البصرة في زمن عُمر، ثم صار حاكماً للكوفة منذ أيام عثمان. عليّ يريد الكوفة بعد أن نزلت عائشة بجيشها في البصرة، يعرف أن له بها أنصاراً ولكن حاكم البلاد الأشعري غير راض عن تحركات عليّ العسكرية. وقف محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر أمام أبي موسى يحملان خطاباً من علي فلم يجدا جواباً يفيدهما في شيء. وفي المساء أناس من مناصريهم على أبي موسى يعوضون عليه الطاعة لعلي، فقال “كان هذا بالأمس”. ربما كان يقصد: قبل أن يقرّر عليّ خوض الحروب. أغضب هذا القول الولدين اللذين أرسلهما علي فشتماه كما يروي ابن كثير. كان أحدهما ربيب علي والآخر ابن أخيه، وسنعرف فيما بعد كيف ضلل الفتيان عليّاً في مواطن أخرى وتسببا في خسارته لمصر.

غضب أبو موسى ونهر الرجلين قائلاً “والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بد من قتال فلا نقاتل أحداً حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا ومن كانوا”[8]. فهم عليّ ما يرمي إليه أبو موسى الأشعري بقوله “حيث كانوا ومن كانوا”. حين تلقى الجواب التفت إلى مالك الأشتر وقال له “أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض في كل شيء اذهب أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدت” كما في الكامل في التاريخ[9] . المعترَض في كل شيء، أو المعرّض في كل شيء في رواية ابن كثير[10] كان شوكة الميزان في جيش علي، والعصا في دولاب أي تسوية سياسية. مثل أبي موسى الأشعري وقف آخرون، فلا يمكن مشاهدة زعيم التمرّد الأشتر قائداً لجيش الخلافة، من وجهة نظر فقهية على الأقل. فالمقتول ظلماً، بصرف النظر عن كونه خليفة، ذهب دمُه هدراً، وعليّ يرفض أن يُقاد به أحد. المواجهة مع أبي موسى الأشعري لم تكن باليسيرة، وما كان ممكناً تجاوزه. في الكرّة الأخرى أرسل عليّ ابنه الحسن صحبة عمّار بن ياسر. ذاعت قصة التحاق عمّار بالمتمرّدين الذين ثاروا على الخليفة. ما إن وصل الرجلان الكوفة حتى دنا منهما رجلٌ يقال له مسروق الأجدع، كما يروي ابن كثير، وسأل عماراً “علام قتلتم عثمان؟” فقال عمّار: على شتْمِ أعراضنا وضرب أبشارنا، فقال الأجداع: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به. ولما رآهما أبو موسى الأشعري قال لعمّار “يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين عثمان قتلته؟” فقال عمّار: لم أفعل، ولم يسؤني ذلك” [11]. لا شك في أن عليّاً كان محاطة بقادة التمرّد الذين قتلوا عثمان أو تمالؤا على قتله. أو بلغة عمّار بن ياسر: من لم يسؤهم قتلُه.حدثت موقعة الجمل، أراد علي أن يحرج خصميه اللدودين، فسأل طلحة: ألم تبايعني؟ فقال الرجل: نعم، والسيف على عنقي[12] . كان ذلك سيف الأشتر ورجاله، ممن نصبوا عليّاً ملكاً.

في المرحلة الثانية، وبعد فراغه من معركة الجمل، اتخذ قراراً أخطر من سابقه: معاقبة المدينة ومكّة. لقد أعلن نقل عاصمة الإمبراطورية الإسلامية إلى الكوفة، وهي مكان في التقدير الإسلامي آنذاك بلا هوية. ليس للكوفة سابق تاريخ مع الرسول، وكانت هذه الحقيقة كافية لتخوف الناس من جعلها عاصمة. أفصح عن ذلك التخوف عبد الله بن سلام، الإمام الحَبر كما يسميه الذهبي، حين اعترض عليّاً وقال له “لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا” [13] . المتشنّجون الذين ركبوا إلى جوار علي ودفعوه إلى الحرب سبّوا عبدالله بن سلام، يقول ابن كثير.

أسس عمر بن الخطاب وقائده سعد بن أبي وقّاص الكوفة لتكون معسكراً استراتيجياً على الحدود الشرقية للدولة الجديدة. في المراسلات التي دارت بين عمر وسعد كان الأول حريصاً على أن لا تصبح عُمراناً، وأن لا تتجاوز وظيفتها كمنطقة عسكرية، وأمره بأن يلتزم بالقاعدة الذهبية: إن العرب لا يصلح لها إلا ما يصلح للإبل من البلدان[14] . لم يسمح عُمر بأن تبنى فيها منازل من الطين إلا بعد أن أبلغه القائد أن حريقاً التهم بيوت القصب، فحدد الخليفة عدد البيوت المسموح ببنائها: ثلاثين. بالنسبة للمؤسس: لا بد أن تحتفظ بصفتها كمعسكر. والكوفة تعني، في أبرز معانيها، المكان الذي ينزل فيه الجند ويجتمعون. لم بتن في الكوفة بيوت من الآجر سوى في الحقبة الأموية. ما الذي جعل عليّاً يتخذ هذا القرار المزلزل، متخليّا عن مدينة الرسول، ومتجاوزاً مكة التي وصفها القرآن بأم القرى؟ للمدينتين حضورهما الديني المهيب في الجزيرة، قبل وبعد الإسلام، وفيهما يعيش العقل الإسلامي. في المدينة، كما يحاجج الإمام مالك دائماً، دُفن عشرة آلاف من أصحاب النبي. ما الذي فعله علي؟ جرياً وراء الحكم أخذ الدولة إلى وكر التمرّد. ثمة أدلّة تاريخية كثيرة على أن أهل الكوفة خذلوا عليّاً بعد صفّين، ثم خذلوا الحسن في عام الجماعة، وتخلوا عن الحُسين سنة ٦١هـ، وتركوا زيد بن علي بن الحسين وأسلموه حين اشتد القتال[15]. يذهب عبدالقاهر البغدادي بعيداً في وصفه لأهل الكوفة، قائلاً إن روافضها موصوفون بالغدر والبخل، وأنهما عرفا بهاتين الصفتين حتى إنه ليقال أبخل من كوفي وأغدر من كوفي[16].

في عشرينيات القرن الهجري الأول توزّع الجند على أرض الكوفة بحسب بلدانهم، وتوزعت حوالي ١٢ قبيلة يمنية على ١٢ مطرح، وكانوا أغلبية. كل قبيلة أقامت لها مسجداً، وكانوا رجالاً بلا نساء[17]. وعندما انتقل الحكم من عمر إلى عثمان صارت الكوفة إلى بؤرة توتر. فهي أرض المقاتلة، وستصير أرضاً للفوضى، ومنها ستخرج موجات العصيان والتمرّد من الخوارج وحتى القرامطة، وغيرهم. إنها، بامتياز، أرض النمر.

حين التقى عليّ وعائشة، ودارت رحى الحرب بينهما، أدرك عليّ ورطته. فهو وإن تسمى بأمير المؤمنين إلا أنه، مقارنة بسابقيه، يحظى بأدنى قدر من الإجماع، وعلى كاهله دم خليفته. ولولا المقاتلون الذين هبوا لنجدته من الكوفة لما كان قادراً على إدارة الحرب، إذ تشير مصادر تاريخية كثيرة – سنية وشيعية- إلى تمكّن خصومه من حشد عدد أكبر من المقاتلين. ثمّة من يضع عدد جنوده بحدود العشرين ألفاً، وكان قد غادر المدينة بما دون الألف. كانوا حشداً من القبائل، المتمرّدين، الكوفيين، السبئيين، ومتدينين غلاة الطبع سينشقون عنه بعد أقل من عامين ليخلقوا الظاهرة التي عرفت بالخوارج. كان عليّ ينظر إلى ذلك الخليط الهجين من الناس ويناديهم “أنتم أعواني على الحق، بكم أضرب الـمُدبر”[18]. وكان الـمُدبر، في تقدير علي، هو دائماً خصم مسلم أدبر عن الحق، والحق في التعريف الهاشمي نظير السلطة. انحصرت معركة الرجل، كما تصفها كتب شيعته، في حرب الجهات الثلاث: الناكثين، القاسطين، المارقين. أي: أولئك الذين لم يقبلوا ادعاءه للخلافة، ويرون أنه من العار أن يعلن نفسه رئيساً بينما كبار القوم، من الفقهاء وعتاولة الصحابة وزوجات النبي، وزعماء العشائر، لا زالوا يتدارسون مسألة دم الخليفة.

عند نقطة معينة توقفت معركة الجمل، فأصيب المقاتلون الكوفيون بإحباط، وتشكلت بذرة تمرّد داخل جيش علي، وأخذت تتسع. عاتبه مناصروه لأنه لم يسمح له بسبي عائشة ومن معها، ولأنه لم يمض في المعركة حتى الأخير. كانت حرباً ضنّت عليهم بالفيء، المحرك الأعظم لمقاتلة الكوفة. اعتمد عليّ في حشده للناس على خطاب الحق، بالمعنيين الديني والأخلاقي، فانضم إليه المقاتلون وقد تيقّنوا أن قائدهم قد وضع أهدر دم خصومه وأموالهم. عقب انتهاء المعركة أوقف عليّ عملية السلب، ومنع سبي القتلى. إذ ذاك احتج عليه المقاتلة قائلين “كيف تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم؟”[19].

تعقدت الأزمة مع رجاله حين ذهب أبعد من ذلك وراح يبشّر بعضهم بالنّار بعد أن تمكنوا من قتل خصومه[20]. نشأت موجة شك في أتون معركة الجمل وما بعدها، وكانت دوافعها أخلاقية. إذ تلاعب عليّ بالمسألة الأخلاقية دافعاً رجاله إلى الاعتقاد بأن الخصوم شرّ محض، وهي المعضلة التي لن يتمكن من حلّها حين يعرض عليه معاوية الصلح في صفّين، بعد الجمل بعام واحد. فقد كان قبول عليّ للصلح ضربة قاضية لمصداقيته عجز رجاله، المتدينون منهم على وجه الخصوص، عن استيعابها وهضمها أخلاقيّاً. وإن كانت المسألة لا تعدو كونها صراعاً حول السياسة فلماذا الحرب إذن، حاججه الحفّاظ والفقهاء وحتى المتمردون. ومن قبل، في الجمل، كان يوزّع النار على رجاله الذين ينجحون في قتل خصومه. شيئاً فشيئاً لاحظ الجنود أن الأمور ليست شديدة الوضوح في عقل قائدهم، أو أنه لا يدري ما يريد. وهي الرؤية التي ستكتمل مع انتقال السلطة إلى الحسن. فقد اعتمد خطاب قتلة عثمان على تجريم محاباة الحاكم لأسرته في مسألتي المال والنفوذ السياسي، الخطيئة نفسها التي أتى عليها عليّ مبكّراً، وأكملها بنقل السلطة الكاملة لولده. أمرٌ لم يجرؤ عثمان حتى على التفكير فيه.

كان عليّ يعلم تمام العلم أنه لا يملك جيشاً وإنما يركب ظهر النمر. ولكي لا تنفجر القنبلة في منزله فقد أخذ جيشه وذهب لقتال معاوية، ٣٧ للهجرة، مؤملاً أن تمنحه تلك الحرب ما ضنّت به معركة الجمل: السلب للرجال، والعرش له. آلت صفّين إلى هزيمة كبيرة لمشروع علي بن أبي طالب المتمثل في بسط نفوذه على الشام. فحتى تلك اللحظة كان عليّ ينعت نفسه بأمير المؤمنين، وكان معاوية يقدّم نفسه بوصفه والياً على الشام بقرار من خليفة شرعي، وهو الآن ولي دم القتيل. أن تنتهي معركة صفّين إلى صيغة سلام أو هدنة لهو نصر بالنسبة للرجل الذي كانت طموحاته حتى تلك الساعة دفع جيش علي إلى الكوفة ومنعه من اقتحام الشام. وبالنسبة لعلي فتلك كانت هزيمة نكراء، إذ تأكد لأول مرّة أنه سيكون خليفة على نصف البلاد أو أقل من نصفها، وذلك هو الكابوس الذي كان يخشاه.

في طريق عودته يضطرب الجيش، يتشاتم الجند[21] ، يتقاتلون، ثم يحدث شيء خطير. انشق حوالي اثنا عشر ألف مقاتل من جيش علي وذهبوا إلى حروراء، بالقرب من الكوفة، وسيطلق عليهم الحروروية أو الخوارج. رفضوا النتيجة التي آلت إليها الحرب، وأدركوا بحسهم الخاص إن دولة معاوية في طريقها إلى الاستقرار وأن عليّاً أضعف من أن يعيد الحق إلى نصابه، وفقاً لتعريفهم لمسألة الحق.

عرف الخوارج منذ اليوم الأول بالإرهاب والتطرف، لكن الحقيقة أنهم كانوا الجيش الذي قاتل به علي في الجمل وصفّين، ولأجلهم نقل العاصمة إلى الكوفة. كان عليّ هو المؤسس العملي لجيش الخوارج، دربهم على القتال، منح أفعالهم المشروعية الأخلاقية، ضرب بهم يمنة ويسرة، نعتهم بأفضل النعوت، وانتمى إليهم. وعندما صارت مملكته أصغر من تُقسهم على فريقين، بني هاشم والمرتزقة، تخلوا عنه. أزمة جديدة تحيط بالرجل الذي ترك مدينته راكضاً وراء الحكم، وإزاءها ألقى خطابه الشهير متوسلاً بقاء المقاتلة الخوارج إلى جواره، داعياً إياهم إلى العودة مجدداً لمحاربة الشام بعد فشل عملية التحكيم، قال لهم “لا نمنعكم الفيء ما دامت أياديكم إلى أيادينا”[22].

كان علي يعلم نوايا رجاله: الفيء. لا بد وأنه كان يتذكّر الجدل الذي أثاروه في واقعة الجمل: كيف تحلّ لنا دماؤهم ولا تحلّ لنا أموالهم. آنذاك لم يكن لديه من حل أخلاقي للمعضلة التي خلقتها الحرب. الآن، والحرب تضيّف عليه الخناق، أعلنها بشكل صريح: أحل لكم الفيء ما دامت أياديكم إلى أيادينا، كما يروي الطبري في تاريخه. أرسل الوسطاء ووعدهم بحرب جديدة ضد معاوية، وأنه سيكون بمقدورهم أن يمارسوا هوايتهم في السلب والنهب، غير أنهم رفضوا عروضه الأخيرة. ما كان يصلح للناس بعد صفّين ليس هو ما كان يناسبهم قبلها. لقد فقدوا ثقتهم بقيادته وحتى بإسلامه، وقبل أن تضع الحرب أوزارها كانت جماعة من جنده قد حكمت بكفره بما أنزل الله.

يروي ابن الأثير في الكامل أن عليّاً، وهو عائد من صفّين، التقى عبد الله بن وديعة الأنصاري فدنا منه وسلم عليه وسايره فقال له ما سمعت الناس يقولون في أمرنا؟ قال الأنصاري: منهم المعجب به ومنهم الكاره له. فسأله علي: قول ذوي الرأي؟ أجابه الأنصاري “يقولون إن علياً كان له جمع عظيم ففرقه، وكان له حصن حصين فهدمه”[23].

أخبره عبدالله بن وديعة ربما بما كان غائباً عنه من ذهنية العرب، قال له لو أنك قاتلت بمن بقي معك حتى تنتصر أو تهلك لكان ذلك هو الحزم. عاد من صفّين لا منتصراً ولا هالكاً، وقدّر رجاله ذلك بالذل، أو: الحصن المهدم، كما هي كلمات بن وديعة الأنصاري. تفهم العرب الحرب على طريقتها، وما فعله في صفّين لم يكن ضمن رؤية العرب للحرب لا أخلاقياً، إذ حاول النجاة قبل أن يكسب شيئاً، ولا عسكريّاً، فها هي النتيجة تعقّد كل شيء. غير أن ما سيزيد الأمر سوءاً هو تبرير علي بن أبي طالب لقبوله التحكيم “لقد هممت بالإقدام على القوم فنظرت إلى هذين قد ابتدراني – يعني الحسن والحسين- ونظرت إلى هذين استقدماني – يعني عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي- فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة، وكرهت ذلك وأشفقت على هذين أن يهلكا”[23]. خشي عليّ على أولاده وأولاد أخيه، وأمر بإيقاف الحرب. على الجانب الآخر كان معاوية يلتقي بكبار رجاله ويبلغهم نيته الدخول في عملية سلام مع خصمه كي لا يجد الروم والفرس فرصة للانقضاض على الشام والعراق. للرجلين دوافع مختلفة للسلام، ولا بد أن شعبي الرجلين كان على دراية بالطريقة التي يفكر بها القائدان. على الأقل هذا ما تفصح عنه كلمات بن وديعة الأنصاري وهو ينقل رأي العامة إلى أميرهم.

حدثت حرب النهروان بين علي والمنشقين من جيشه، الخوارج. استطاع أن ينزل بهم هزيمة نكراء وهم الذين نصبوه ملكاً، حالوا دون هزيمته أمام جيش عائشة، ومنعوه من الجيش القادم من الشام. كان معاوية خصماً سياسيّاً، وإن حاول عليّ تلوين صراعه مع معاوية بالصبغة الدينية، غير أن معركته مع الخوارج كان شأناً آخر، فقد وضعه الأخيرون في درجة المارق عن الدين. سيرد عليهم، هو ومن بقي معه، أيضاً بإخراجهم من الدين. الحرب التي وقعت بين الطرفين في حروراء كانت ضارية انتهت بفناء معسكر الخوارج، فقد كانت حرباً دينية خالصة.

—–
من كتاب: على مقام الصبا، طريق أبي الحسن من العزلة إلى النكسة
مروان الغفوري
—–

مصادر وهوامش:
1. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع ص. ٢٦١
2. الطبري، تاريخ الرسل والملوك، الجزء الرابع، ص. ٤٥٦
3. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع ص. ٢٦٢
4. الجاحظ، كتاب العثمانية. ص. ١٠-١١
5. الطبري، تاريخ الرسل والملوك، الجزء الرابع، ص. ٤٥٦
6. الرَّبذة مدينة تاريخية أثرية، تقع في شرق المدينة المنورة وتبعد عنها قرابة ١٧٠ كم. وهي إحدى محطات القوافل على درب زبيدة الممتد من العراق إلى مكة المكرمة.(المصدر: ويكيبيديا )
7. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع ص. ٢٦٣
8. المصدر السابق. وهو أيضاً عند ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء الثالث، ص. ٢٢٧
9. المصدر السابق.
10. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع ص. ٢٦٣
11. المرجع السابق. وهي عند الثقفي في الغارات، الجزء الثاني ص: ٩٢٣. وعند ابن الأثير في الكامل في التاريخ، ٢/٣٨ وغيرهم.
12. ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، الجزء الأول، ص: ٩٥. كذلك: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء الثالث، ص: ٢٣٩. كما عند: ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع، ص: ٢٦٨.
13. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع ص. ٢٦١
14. الطبري، تاريخ الطبري، الجزء الثالث، ص. ١٤٤-١٥٠
15. محمد إبراهيم الفيومي، الفرق الإسلامية وحق الأمّة السياسي. القاهرة. دار الشروق. ١٩٩٨. ص. ١٠٤-١٠٥
16. عبدالقاهر البغدادي، الفرق بين الفرق ص. ٣٧.
17. الطبري، تاريخ الطبري، الجزء الثالث، ص. ١٤٤-١٥٠
18. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء الثاني، ص. ٢٤٠
19. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع، ص٢٤٤. كذلك: الطبري، تاريخ الطبري، الجزء الخامس، ص٢٢٣.
20. ذكر أحمد بن حنبل في كتاب فضائل الصحابة (٢/ ٧٣٦ – ٧٣٧) : جاء قاتل الزبير يستأذن، فجاء الغلام فقال هذا قاتل الزبير، فقال عليّ: ليدخل قاتل الزبير النار. و جاء قاتل طلحة يستأذن فقال الغلام: هذا قاتل طلحة يستأذن، فقال عليّ: ليدخل قاتل طلحة النار.
21. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء الثالث، ص. ٣٢٢
22. الطبري، تاريخ الطبري، الجزء الخامس، ص.٦٤
23. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء الثالث، ص. ٣٢٣
24. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء الثالث، ص. ٣٢٣- ٣٢٤. كذلك عند ابن مزاحم المنقري في وقعة صفّين، ص. ٥٣٠. وعند الطبري في تاريخ الرسل والملوك، الجزء الخامس، ص. ٦١

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version