كتّاب

مروان الغفوري | تلك السنة. الجزء الثاني. ــــــ كانت السنة تمضي. كنّا


تلك السنة.
الجزء الثاني.
ــــــ

كانت السنة تمضي.
كنّا نمضي ونكبر.

يدخل معلّم الكيمياء، طويل القامة، أصابعه طويلة، مهذّب، في صوته بحّة. قال إن اسمه الأستاذ عادل الشرعبي. يتهامس طالبان إلى جواري: هذا كبير الإصلاحيين في المدرسة. لا يتحدث عادل في السياسة، لا يأتي على ذكرها، مظهره العام يقوم إنه كلّي الحياد، الطريقة التي يحييه بها زملاؤه تجعلك تفكّر ملياً في الرجل. فجأة، ولا تسألني كيف حدث ذلك فأنا شخصياً لا أعرف، نقف أنا وبعض الطلبة أمام مبنى كبير في المدينة، يطل المبنى على شارع جمال من جهته الغربية. ندخل المبنى، درجات المبنى مغطاة بالموكيت، الشباب يصعدون ويهبطون حفاة الأقدام، النعال تترك في الأسفل. على هيئة مصلى بدا ذلك المبنى، كانت الطهارة تتقافر من الجدران أكثر من الوجوه. تعرفون تلك اللحظة عندما تأنس روحك للمكان وتتوجس من البشر؟ تشاركنا الانطباع الأول وواصلنا الصعود حتى الدور الثالث. استقبلنا شاب لا نعرفه، أدخلنا إلى غرفة يجلس في قلبها الأستاذ عادل. قال إنه لقاء للتعارف، ولقراءة القرآن. يسمي عبد الهادي العزعزي تلك اللحظة بلحظة التحميل [لما الإصلاحي يجدمك في رقبتك وينزّل لك البرنامج، يقول العزعزي الذي سأتعرف عليه في القاهرة أثناء الدراسة]. أرتبك بعض الشيء، الآخرون غير آبهين. نقرأ القرآن، كان بيننا طالب أو طالبان يعرفون بالضبط ما الذي عليهم فعله، وقد ألقى أحدهما درساً قال إنه حضّره بمحض الصدفة. كان درساً حول العمل الجماعي، وتردد تلك الليلة القول إنما يأكل الذئبُ من الغنم القاصية. تخيلت مشهد الذئب يخرج وقد اكتمل البدر، يلاقي صديقي علي رسّام وحيداً في طريقه إلى المدرسة، يلتهمه بالقرب من البوابة الغربية للمعهد السويدي. كانت لحظة مهيبة. كان رسّام طالباً شديد الاجتهاد لا يستحق تلك النهاية الإنجيلية. فيما بعد سأصبح صديقاً لأحد المقيمين في ذلك المبنى، كانت له لحية خفيفة ويتقمص العربية الفصحى بشكل رائع. أخذني يوماً ما، ونحن ننتظر المعلم، إلى البكلونة. قال إنه رأى رجلاً هندياً يجامع امرأته في [هذيك الشقة]، لم يتنبه الهندي إلى أن ضوء الغرفة كان مسرجاً والشبابيك مفتوحة، وأن هناك أناساً أعلى منه يرونه من حيث لا يرى. قال الشاب إنه استدعى أفضل أصدقائه في المبنى وعاينوا معاً، بين صلاة المغرب والعشاء، ذلك المنظر [كانت ليلة، قال الأخ]. [الفكرة في الطريقة، شرح سبب اندهاشه].

بعد عدد من اللقاءات المبهمة يتوعك الأستاذ عادل، نصل في الموعِد، عددنا يقترب من العشرة، يدخل شاب بلحية خفيفة بالنبأ: الأستاذ عادل تعبان شوية بيدير اللقاء الأخ مروان. انتظرت خروج الشاب. هذا لقاء ذو طبيعة دينية، أسرتي كبيرة للغاية ليس فيهم إصلاحي واحد، ما يعني أني لست مدرباً على الإكليشيهات الدينية. لا نتحدث كثيراً في مثل هذه المسائل، نتنمر في العادة على المتدينين، عندما قال المعلم عادل في اللقاء الأخير إن المرء يصبو في حياته لأن يكون داعية وجدت الأمر خليطاً من السبة والدعابة. سأعيش أوقاتاً عصيبة مع أحمد الغفوري، والدي. سيفقد عقله. كنتُ صريحاً في ذلك اللقاء، لم أحمد الله ولم أثنِ عليه ولم أقل شيئاً مما يقوله المتدينون، كما لو أنني سأقف على مسرح وسأقوم بدور ليس لي وسينفجرون ضحكاً. أحدهم سينفجر ضحكا. تخيّلت أبناء أعمامي وعمّاتي وهم يقهقهون [كيف قلتَ لي؟ إن الحمد لله نحمده ونستعينه]. التنمّر على الخلائق كان عملاً يدخل السعادة إلى قلب العيلة، كل العيلة. قلتُ للطلبة: تعرفون لماذا نلتقي هُنا؟ لا يرد أحد. أواصل حديثي: "لقد أصبحنا أعضاء في حزب الإصلاح، نحن ندّعي أننا لا نعرف وهم يدّعون أنها لقاءات عادية، الحقيقة أننا تورطنا ودخلنا الحزب. أنا مضطر لمصارحتكم لتتخذوا قراركم". في اللقاء القادم غاب نصف الطلبة، وفي الأسابيع القادمة لم نعُد نلتقي، وأكملنا العام الدراسي معاً.

كانت الكيمياء واحدة من المواد التي أحبّها أقل ما يمكن، بخلاف الفيزياء. ما الذي كان يفعله الأستاذ جلال بتلك المادة؟ إنه لأمر مذهل بحق ما كان يفعله. يضع كتفه اليسرى على السبورة، على طرفها، يرسم دوائر وأشكالاً بيده اليمنى، يتوغل في الشرح على طريقة روائي ماهر. لم أجد في حياتي، ولن أجد، رجلاً يضع حبكة روائية في الدروس الفيزيائية عدا جلال. كان يأخذنا إلى حافة الكرسي، تمتلئ كلماته بالثريل والسسبنس، الإثارة، تراقب، أنتَ تتحفز، ثم تقفز مع الجسيمات من دوائر السيليكترون كما فعلت جزيئات المعلم جلال. إنها الفيزياء المثيرة التي تجعلك تتساءل وأنت مسرج العينين: وماذا حدث بعد، هيا، ما الذي سيحدث؟ وإذا طرحت عليه سؤالاً، أياً كان سؤالك، فإن المعلم جلال سيقول لك بكل هدوء: اسأل جدّتك.

نواصل الركض، يصل زميلي وكان شاباً رهيباً لديه القدرة على تجاهل كل العالم والانكباب على الدرس. يقول لي بصوت مخنوق: رفعت الراية البيضاء. يواصل حديثه ونحن نقف أمام باب المدرسة منتظرين أن يُفتح، فقد كنتُ أصل متأخراً كالعادة. يقف مدير المدرسة شخصياً في الباب "افتح إيدك" أفتح يدي، "افتح الثانية"، أفتح الثانية، نواصل الحديث أنا وصديقي، أفرك يديّ الملتهبتين واضعاً دفاتري تحت إبطي. يغمغم زميلي: ارفع الراية، لا تحاول، طلبة ثانوية تعز وحوش. أتخذ قراراً للتو، سأحضر بعض الحصص الدراسية في مدارس تعز، سأتجسس على الوحوش، لا بد أن أحدد مكاني في هذا الصراع البربري. يفاجئني بعضهم بالفعل، أعود مغموماً. يفاجئني المعلمون أيضاً. أقارنهم بالمعلمين خاصتي، ينتصر معلمونا. تهدأ نفسي.

يوماً ما أزور المعلم عبد الخبير في منزله، نتوغل في الرياضيات معاً، يقول لي بحزم: نعقد اتفاق، أنت تجيب مية في الرياضيات وتطلع من الأوائل وتسافر، وأنا أشتهر. بعد السنة الثانية في كلية الطب زرته في منزله، قال: عملت اللي عليك وسافرت وأنا ماشتهرتوش. راعني ما قاله، الحقيقة أنه كان قد صار نجماً من نجوم المادة ولكنه لا يأبه لكل ذلك.

أجواء مشحونة على نحو لا يصدق، الطريق مزدحم، الفرص شحيحة، ماذا لو أفلتت منك اللعبة؟ كنت أسكن في بيت عمّتي في المدينة، وجدت مأوى في مدينة لا أعرفها، ثم صرت أعرفها فقرة فقرة. أذهب إلى الصلاة في جامع النور، عبد الله أحمد علي يخطب في السياسة، يقدم السيرة النبوية بوصفها محفلاً انتخابياً أخذ ربع قرن من الزمان، كان النبي حاكماً، وكان الناس يقيمون حدود الله. لم أجد أثراً للآداب والفنون، الغناء والإبداع، الحريات والمرأة. كان البشر يتوافدون على مسجده، كنتُ مع البشر. نهاية الأسبوع أذهب إلى السينما، وهي صالات كبيرة وعملاقة أشبه باللوكنده، تعرض فيها أفلام مصرية وهندية قديمة. كان الخميس مميزاً في سينماء 23 يوليو، الليلة التي تسبق عبدالله أحمد علي. يأخذ الجزء الأول من الفيلم ما يدنو من ساعتين، يكون الوقت قد شارف على العاشرة مساء. ثم، وهذا ما كان يهم آنذاك، تأتي الاستراحة: تجميعة ضارية لمدة عشرين دقيقة لأفضل اللقطات الجنسية من أفلام شتّى. كانت تلك اللحظة جليلة ومفزعة في آن، وكنت حريصاً على أن تكون جزءاً من "الورد الأسبوعي" خاصتي، كنت أكافئ نفسي على شقاء الأسبوع. لم تفقد اللحظة تلك مهابتها ومركزيتها سوى في تلك الليلة عندما طال الجزء الأول من الفيلم أكثر مما ينبغي، ثم فجأة توقفت الشاشة لثوان وقفزت لقطة مهيبة وثرية من فيلم "البحار الذي أرسله الله". وما إن قفزت صورة "المرأة العارية والبحار ذو اللحية" إلى الشاشة حتى صاح رجل من الذين في الأسفل [الصالة]: وحدووه، وتضاحك الناس وأخذوا أماكنهم. قاطعت تلك الدار بعد ذلك، وخضت نقاشاً مع نفسي. بعدها بأيام قال لي زميل، وكان يحلف وكنت أستحلفه وكان يكرر حلفانه: والله العظيم إني شفته في السينما أمس. وذكر لي اسم أحد أبرز الطلبة في ثانوية تعز، كان أيضاً في السينما. آنذاك أدركت أن الطريق الذي مضيتُ فيه لم يكن ضالاً كما تخيّلت، وأني لم أكن وحيداً فيه، لم أكن "النعجة القاصية". وهكذا فقد عدتُ إلى السينما ولكني اخترت سينما بلقيس هذه المرة وأكملت ما تبقى من العام هناك.

تقترب السنة من آخرها، ننهمك في الدراسة، يأتي أبريل، لا بد أن نذهب إلى الانتخابات. كنتُ حتى تلك اللحظة أصغر عاماً من "سن الانتخابات"، وكان آخرون في نفس سني بسبب دخولنا المبكّر إلى المدرسة.

يأتي يوم الانتخابات، تعز مشحونة ومتوترة، الأسماء تتطاير مثل جن الربيع، والحظوظ تتساقط مثل الخريف. دوائر المدينة الخمسة تحولت إلى بؤرة الانتخابات في كل الجمهورية، الإصلاح يلقي بأبرز أسمائه الدينية في المدينة، أبي يشرح الأمر غاضباً في نقاشه مع صهر له: تشتوا برلمان والا مسجد، فهموني؟ يزج الإصلاح بدعاية مركبة تعتمد على أمرين اثنين: الدين والشفافية. وكالعادة فإن الشفافية هي جزء من طبيعة الرجل المتدين، هذه هي خلاصة الخطاب الإعلامي. يتطاير شريط إنشاد قادم من إب، يسري كالنار في الهشيم. تقول أنشودة: ششل ما ادّيك وانتخب من اشتيك. تعززها أناشيد أخرى تقدم للناس هذه النصيحة: خذوا الأموال من رجال المؤتمر وانتخبوا الإصلاح. كانت الأناشيد تحرض الناس على شكل من أشكال الفساد سيسمى فيما بعد الارتزاق. ولم يكن أحد ليلتفت لخطورة الأمر، حتى معارضو الإصلاح. يلتقيني بائع قات من الجعاشن كنتُ قد تعرفت عليه في مصادفة وصرنا أصدقاء، كان شاباً ملون العينين وكان ذلك محيراً جداً بالنسبة لرجل يعمل في بيع القات. سألني ما إذا كنت أتمنى "فوز الشيخ عبد الرحمن قحطان" قلت له طبعاً. يوم الانتخابات عدت إلى الضباب ومنحت صوتي للمؤتمر الشعبي العام، كان شيخ القرية وكان يهمنا أن يبقى صوتنا في المجلس. كانت تلك حيلة النظام آنذاك. عدت إلى المدينة بضمير مفكك بين مصلحة القرية وتقديراتي الأخلاقية والسياسية. لم يكن لدي شك في لاكفاءة النظام آنذاك، وكانت تعز عامرة بالخطاب السياسي المعارض، وكان حزب صالح ضعيفاً ومحشوراً فيها. كان ينتصر في القرى، أما المدينة فكانت "للأفندية" من التنظيمات. أواصل المذاكرة، الساعة تقترب من الثالثة عصراً، يأتي أحدهم، يطرق الباب، المعلّم فلان. معلم إصلاحي معروف، ويحظى باحترام أناس كثيرين.
انتخبت يا وليد؟.
أيوه، أرد عليه.
ـ أين انتخبت؟
في الضباب، أقول له.
ـ إيش من ضباب، البس الصندل وتعال شاقول لك.

نمضي في شارع المغتربين، نخترق شارع جمال، نتوغل في المدينة، نقترب من مسجد العيسائي، ندخل بين منازل متلاصقة، يفتح الدور الأرضي في عماره كبيرة، أغمغم: إلهي. خلق كثيرون، يدخلون ويخرجون، مشهد حشر مصغر. يدفعني المعلم إلى غرفة صغيرة، أجد الشاب الجعشني ملون العينين، يبتسم لي بود، يأخذ إصبعي، يغمسها في حلّة كبيرة بها سائل له رائحة، تخرج إصبعي نظيفة. المعلم يقف في الباب، يأخذني إلى غرفة أخرى، أحصل على بطاقة انتخابية مكتوب عليها: محمد علي طاهر غالب. يدعو لي بالتوفيق "المركز حقك مدرسة الشعب. اسرع ماعادفيش وقت". أركض إلى مدرسة الشعب، أصل إلى المكان، الشمس لا تزال في مكان ما، البشر في كل مكان. أفكر بالهندسة الفضائية، ببعض مسائل الفصل الأخير. أجلس أمام موظف اللجنة، يأخذ البطاقة، يفتح الكشف، يسألني: إيش اسمك؟ أرد عليه: مروان الغفوري. يتوقف، يسحب يده من الكشف، تسقط الصفحات فوق بعضها. ينظر في البطاقة، يسألني: ما اسمك؟ أقول: محمد علي طاهر غالب. يعيد السؤال، أكرر الإجابة. يقول غامزاً: متأكد؟ أقول بصرامة: متأكد. يفتح الكشف مرة أخرى، يسقط مرشح الإصلاح في تلك الدائرة، الشيخ قحطان، ينتصر الدكتور الوسيم جدّاً سمير خيري، يصب الإصلاحيون غضبهم على "بنات المدينة القديمة".

في الجمعة التالية أشار خطباء تلك الدائرة إلى الحديث الذي يقول: أشد الناس ابتلاءاً [أو بلاءاً] الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل. ووجد عبد الرحمن قحطان في ذلك الخطاب عزاء عظيماً، حتى إنه استعمله فيما بعد. ثم انصرف الخطاب إلى "المعصية"، والركون، وحضرت "يوم حنين" وقالت أشياء كثيرة حول المسألة تلك. كانت صدمة مدوية لحزب الإصلاح ليس لأن شاباً وسيماً غلب شيخاً في انتخابات مفتوحة، بل لأن رمز الحزب في المدينة خسر المعركة التي دارت، في الأساس، حول "الفضيلة".

أما أنا فقد خطر في بالي في لحظة ما أن "البحار الذي أرسله الله" ربما يكون هو السبب ..

يتبع ..

م.غ.

مروان الغفوري | كاتب يمني

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى