كتّاب

بتضحكوا على إيه ياولاد الكلب:…


بتضحكوا على إيه ياولاد الكلب:
فى النصف الأول من الستينيات، كان مسحراتى حينا “درب سيدى صلاح” فى مدينة الباجور عم عبد الغنى أبو العينين، لا أعرف لماذا يلقب بأبى العينين رغم أنه كان كريم العين أى بعين واحدة؟ وكان إلى ذلك أعرجا، مثقف بمقاييس ذلك الزمان يقرأ الصحف والمجلات وقد قضى بالأزهر سنوات من عمره فحفظ كثيرا من أجزاء القرآن الكريم.. وكان ضحوكا ذكيا حلو الحديث محبوبا .. حلو الصوت، نسعد ونحن نلتف حوله وهو وسط أقرانه يقرأ لهم القرآن مقلدا كبار القراء ومشاهيرهم كالشيخ محمد رفعت ومصطفى اسماعيل وعبد الباسط .. كان فى رمضان يمر على البيوت التى نام أهلها لينقر بجلدة على طبلة صغيرة مخروطية الشكل، فيوقظها للسحور، حيث يحظى ببعض التمر أو قطعة من الكنافة او بعض ثمار البرتقال والجوافة، وكنا – وخاصة إذا كان الوقت صيفا- نتبعة، لنسمع دقاته اللطيفة على طبلته وهو يدعو الناس للسحور وحين يمر بفرجة كبيرة تخلو من البيوت ينقر على طبلته متغنيا “هو صحيح الهوى غلاب.. معرفش أنا” وأغان غيرها كثيرة، و فى صبيحة يوم العيد يمر على بيوت الدرب لينال أجره قروش قليلة، أو بعض القمح أو طبق من القرص والكحك والبسكويت.. ينالها راضيا مبتسما داعيا للناس بالصحة والستر وبعودة الأيام، ومات عم عبد الغنى بعد مرض قصير
فاجتمع كبار الحى ليتداولوا فى أمر تعيين خليفة للمسحراتى وأجمعوا على أن يرث مهمته فى تسحير الناس “أبو السعود” ابن أخته، كان أبو السعود شابا فى منتصف العشرينيات من عمره، ربعة عريض المنكبين مكتنز العضلات، لم يدخل كتابا ولا مدرسة، إذ كان يعانى درجة خفيفة من درجات العته، جعلت حصيلته اللغوية شديدة المحدودية، يكلم أشباحا لا نراها، ويتوقف فجأة ويتأمل فى قرص الشمس ثم يضحك بصوت عال ويمضى، وكثيرا ما كانت أمى تستوقفه وتسأله: صلاح حينجح يابو السعود؟ فينظر إلى قرص الشمس ويرفع سبابتيه إلى أعلى ويضحك، فتعتبر أمى ذلك فألا حسنا وتنقده “نص افرنك” بحاله، فيرفع يده للسماء دون أن ينطق حرفا .. ولم يتمكن أبو السعود من اتقان أى مهنة فعمل خادما لمسجد الحى “مسجد سيدى صلاح”، فينفض الحصير من وقت لآخر وينظف ميضأته ويطارد من يتخذونه مكانا للهو والعبث مثلي انا ورفاقي، وكان متزوجا من قريبته القعيدة نراه يحملها على ظهره وهى تشبك يديها حول رقبته لتجلس يوم الجمعة أمام ضريح سيدى صلاح لتنال نصيبها من نذور أصحاب الحاجات التى قضاها لهم الشيخ طبق مهلبية أو بليلة او نصف رغيف فيه قطعة من اللحم، وكان أبو السعود شديد الرقة وهو يعامل زوجته القعيدة فيؤكلها بيديه، ويمسح لها برقة فمها وذقنها مما تناثر عليها من طعام وينفض لها ملابسها قبل أن ينحنى لتعتلي ظهره،
وكان أبو السعود يمتلك قوة بدنية هائلة، فيملأ بالطلمبة خزان مياة المسجد فى نصف ساعة ويستأجره الناس لنقل أوحمل الأحمال مهما كانت ثقيلة، أو هدم الجدر، حتى أنه حمل ذات مرة على كتفيه حمارا يحمل بدوره حمولة ثقيلة من “السباخ” ليعبر به قناة صغيرة حفرت فجأة فى الطريق،
ولم يكن أبو السعود وهو يسحر الناس يشدو ولا ينقر طبلا، وإنما كان يمر على البيوت يضرب بقبضته القوية على الباب قائلا: إصحى يا عم فلان، ولا ينصرف إلا إذا أجابه من الداخل صوت يقول: كل سنة وأنت طيب يا أبو السعود، وكان يسكن فى وسعاية المسجد “عم فانوس عبد الشهيد” مسيحى يعمل كاتبا بالمدرسة الإبتدائية، نعرفه ونعرف أولاده جميعا مكارى ورؤوف وسوزان، طالما عملنا فوق سطح بيتهم “الغديوة” المعروفة في ذلك الزمان، ولم يكن من النادر أن يزوره قسيس كنيسة بلدنا الصغيرة بملابسه السوداء المميزة، وكثيرا ما حضرنا فى بيتهم القسيس وهو يصلى بهم عندما يلم بعم فانوس مرض يمنعه من الذهاب للكنيسة، وكان رؤوف ومكارى يتفوقا علينا جميعا فى صنع وتزيين الطائرات الورقية والرسم وعمل التماثيل من الطين وصيد السمك وغيرها مما كان يشغلنا فى أجازة الصيف، وبينما يحلوا لنا اللعب والصراخ فى ليالى رمضان، يقبل أبو السعود ليدق على البيبان بصيحته الشهيرة، وعندما يقترب من دار عم فانوس نتوقف عن اللعب ونصمت تماما، ونقترب منه وهو يدق على باب عم فانوس قائلا: إصحى ياعم فانوس، وعندما يأتينا صوت عم فانوس من الداخل: كل سنة وانت طيب يا ابو السعود، حتى نضحك كلنا ضحكات عالية، فيستدير لنا أبو السعود غاضبا ورافعا يده: بتضحكوا على إيه ياولاد الكلب؟ فنفر من أمامه خوفا من أن تطالنا يده الجبارة
وظل أبو السعود سنوات طويلة يوقظ عم فانوس للسحور، ونحن نضحك بينما هو يتساءل فى نفسه عما يضحك أولاد الكلب الأشقياء هؤلاء …… يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى