كتّاب

عن البوكر ومرض الخريف…


عن البوكر ومرض الخريف
مروان الغفوري
ــــــ
حصل ليوناردو دي كابريو على جائزة الغولدن غلوب، كأفضل ممثل.
لكن الجائزة الأكبر أخطأته على الدوام.
منذ العام ١٩٩٤ وهو ينتظر الأوسكار وتذهب إلى آخرين. وصفته الإيكونوميست قبل عام ب”ليو المسكين” فقد أخطأته الجائزة قرابة خُمس قرن من الزمن. أخيراً نالها أو نالته.

الفن موضوع غير كمّي، وغير رياضي. الذين شاهدوا الأعمال العظيمة لدي كابريو شاهدوا أيضاً كيف خسرت السباق. لكن “المسكين ليو” لم يستسلم لعذاب الجوائز، و “لم يمرض في الخريف” إذا استخدمنا تعبير درويش عن حال الأدباء بعد إعلان نوبل. لا يُصنع الفن لكي ينال جائزة. الفن، الكتابة، سيكون عليه أن يبقى وحيداً في العراء ليواجه سؤال الخلود: إما أن يجتازه أو يهوي. بين العام ٢٠٠٢ و ٢٠١٣ وقف علاء الأسواني. يقول عن “عمارة يعقوبيان: عددت ٢٠٠ مقالاً عن الرواية، ثم توقفت عن العد. لكن نادي السيارات، ٢٠١٣، لا يتذكرها أحد. لقد ذهب يعد المقالات التي كتبت عنها فلم يجد الكثير. المجد، النجاح، الخلود بنسبيته، مسألة متروكة كلياً للنص، وهي معركته وحيداً ومجرداً وعارياً.

في فيلمه الأخير The revenant يخوض ليو تجربة مجنونة، وساحرة تقطع الأنفاس. لقد ألقى بنفسه في جليد شمال كندا وأكل كبد ثور أميركي نيّئ، وغطس في الجليد في جوف فرس ميت. ليو المسكين هو ليو العظيم، الذي ارتبط اسمُه بأكثر الأعمال السينمائية عبقرية خلال العشرين عام الأخيرة، تلك الأعمال العظيمة التي فشلت في منحه الجائزة.

كنت أتجول في مدينة إيسن قبل أيام مع صديقي الشاعر المصري محمد سيد حسن. كان يطلب مني قراءة نصوصه الأخيرة، وكنت أقول له “يا للروعة” فيسألني متشككاً ما إذا كنتُ بالفعل أعني ما أقوله. فجأة أقطع الحديث قائلاً: إذا نلتُ جائزة البوكر هذا العام فهذا لا يعني أني صرت روائياً عظيماً، لكن طعم الهزيمة واحد. وكان يضحك ويقول: تسامَ، لا بد أن تتسامى..

ليلة إعلان جائزة البوكر، العام الفائت، كنتُ متأكداً أني سأفوز صباح الغد. كانت الإشارات التي تصلني تؤكد ذلك. الطريقة التي تلقى بها روائيون معروفون، مثل واسيني الأعرج وسعود السنعوسي، رواية جدائل صعدة منحتني ثقة: هؤلاء هم أهل الجائزة وأدرى بطقوسها. لكل جائزة طقوس، بالطبع.

فجأة وجدت نفسي خارج الجائزة. تلفّت حولي فوجدت ١٧٩ روائياً عربياً فشل في الوصول إلى القائمة الطويلة. يوسف زيدان، بطل البوكر ٢٠٠٩، كان أبرز المغادرين. أكثر من ذلك: خرجت رواية مملكة الفراشة، لواسيني الأعرج، من سباق البوكر، وفازت على الضفة الأخرى بجائزة كتارا من قطر في العام نفسه. زيدان، صاحب عزازيل، فشل في الوصول إلى القائمة الطويلة مراراً: فشلت رواية النبطي، وكذلك غونتانامو. لم أبتسم، قبل عام، إلا بعد أن رأيت محمد برادة، الروائي والناقد المغربي الأكثر شهرة، يخرج من السباق وهو أحد أعضاء لجنة تحكيم البوكر في واحدة من الدورات السابقة. هذا العام فاز كاتب كويتي سبق أن رأس لجنة تحكيم البوكر. لا مشكلة في ذلك، لكنه يمتلك أفضلية على الآخرين: فهو يعرف كيف تجري الأمور.

الجوائز الأدبية تمرض المبدع، فعلاً. كان ماركيز يكتب نصائحه، التي وصفها بالثمينة: ما عليك سوى أن تنشر روايتك لدى دار تعرف مزاج لجنة التحكيم.
حتى هذه النصيحة لا تكفي، ولا تفسر شيئاً.

قبل عام كنتُ أتساءل: لماذا عبرت رواية “ابنة سوسلوف” لسروري إلى القائمة الطويلة وخرجت رواية “بخور عدني ” لعلي المقري؟ ثم لماذا لم تعبر “ابنة سوسلوف” إلى القائمة القصيرة، بينما عبرت رواية الطلياني، للمبخوت، ونالت الجائزة في الأخير. الطلياني رواية أقرب إلى السيرة الذاتية، وهي بلزاكية الطابع يمكن اعتبارها من روايات السبعينات، سبعينات القرن التاسع عشر: المناضل اليساري العليم الذي يخوض صراعاً ضد التيارات الدينية والأجهزة الأمنية. رواية غارقة في الهايبرريالتي من اللون الأبيض والأسود. لا إبهار، ولا أجواء فنية، لا أجواء. دعونا نقتبس من “باموق” في “الروائي الساذج”: الرواية الأدبية هي رواية الأجواء، تلك التي تأخذك في تفاصيلها دون أن تدفعك إلى السؤال: وماذا حدث بعد ذلك. في الرواية الأدبية لا قيمة مركزية لسؤال كهذا. لكن الطلياني نال اللقب ولم يتذكر أحد رواية “تبادل الهزء” لمحمود ياسين، تلك المنحوتة من الواقعية السحرية المشبعة باليومي والفني واللغوي والشعري والفانتازي..

البارحة كنتُ أردد ما قاله الروائي التونسي المعروف كمال الرياحي قبل أسابيع: لا يهمني أن أفوز بالجائزة، يكفيني أن داراً كبيرة كالساقي هي من رشحتني.

وسمعتني رفيقتي وأنا أقول: يكفيني أن داراً كبيرة كالآداب، بسمعتها وقيمتها التاريخية، رشحتني لنيل الجائزة، بما عرف عنها من صرامة وعن لجنتها الأدبية من احتراف وفنّية ودراية.

أعجبت رفيقتي بهذه المقولة، قائلة: ألم أقل لك؟
لكني عدتُ وتذكرت صديقي سيّد: تسامَ يا مروان، تسامَ.
صباح اليوم التالي كنا، كمال الرياحي وأنا، نخسر معاً.

رشحتني دار الآداب لنيل جائزة البوكر لعامين متتالين:
عن جدائل صعدة
وعن تغريبة منصور الأعرج
ولم أحصل على الجائزة.
أعلم أن الآداب لا تفعل ذلك عادة، وهذا ما أدخل السرور إلى ضميري الفنّي. أن يكتُب المرء مستنداً إلى جدران دار الآداب، لا إلى لجان تحكيم تعمل في الظلام.

سبق لدار الآداب أن نالتها عن عمل عظيم هو “دروز بلغراد” للروائي اللبناني الشاب ربيع جابر. ولا يمضي عام دون أن تصل الآداب، عبر مبدعيها، إلى القائمة القصيرة. غير أن الكثيرين من كتاب “الآداب” الكبير يخسرون أيضاً، يخسرون ببسالة في معركة محكومة بعبث عميق، غير مفهوم ولا يمكن ترميمه.

قالت لي مديرة الدار، رنا إدريس، إنهم اكتشفوا ربيع جابر عندما كان لا يزال في الـ ١٩ من عمره، عندما كتب عمله الرائع “شاي أسود” في العام ١٩٩٥. بعد ذلك صار جابر عضواً مرموقاً في مجرة دار الآداب. إنهم يثقون به ثقة مفرطة. في رسالة واتس أب أخبرتني السيدة إدريس، مواسية: انس النتائج، نحن في دار الآداب نؤمن بك. قرأت الرسالة وابتسمت. لكن طعم الهزيمة واحد. هي هزيمة، وأنا أجد طعمها واحداً، من الحب إلى الشطرنج. أتألم بالدرجة نفسها، وأنسى بالسرعة نفسها، وأتحرك إلى الأمام على طريقة رجل يجر عربة في الثلج..

هذا العام، أيضاً، خرج صاحب “ساق البامبو” من السباق. سبق أن نال الجائزة في العام ٢٠١٣، لكن روايته الأجد “فئران أمي حصة” لم تحمله هذه المرة. أستطيع القول إن عمله الأجد أفضل من سابقيه، لكن لجنة الحاكم لديها قول مختلف. في كل عام تأتي لجنة جديدة، بقول جديد. قبل عامين قال أمين عام الجائزة: لقد اخترنا الفصاحة الجديدة. وعندما وصلت رواية “الفيل الأزرق” إلى القائمة القصيرة ذهب المثقفون المصريون يتساءلون: هل تلك هي الفصاحة الجديدة؟ وفي كل مرة تغضبهم “البوكر” يلقون على وجهها بالفيل الأزرق.

عندما يقرأ المرء عملاً حاز البوكر في نسختها الإنجليزية، على سبيل المثال: إله الذكريات الصغيرة، يصاب بالذهول. تبدو خبرات لجان التحكيم مع العمل الروائي، خارج الوطن العربي، ممتدة وعميقة، وكذلك الكتابة الروائية، بالطبع. سبق أن اعترفت صاحبة “غراميات شارع الأعشى” إنها تكتب للبوكر. وصلت روايتها إلى القائمة الطويلة، فقد خمنت ماذا تريد لجنة التحكيم. لكن ذلك التخمين الماركيزوي لا يصدف كثيراً.

سيستمر الكتاب في صناعة أدبهم، وسيجدون من يتحمس لأعمالهم ويرشحها إلى جائزة ما. في البدء يبتهج الكاتب “عظيم، لقد رشحوا عملي” ثم يمرض في الخريف. حتى درويش الطيب، الذي قال إنه لا ينتظر نوبل، اعترف في”أنا الموقع أدناه” أنه يرنو إلى جائزة كبيرة. أضاف: وأتمنى أن أبلغ مائة عام من العمر. مات في ال ٦٧.

وعندما يكون أمام لجنة أدبية ١٥٨ عملاً، بصرف النظر عن الأسماء، فإن عليها أن تختار ستة أسماء فقط. سيجد ١٥٢ كاتباً أنفسهم خارج السباق في عملية قسرية. ولأنها كتابة إبداعية غير خاضعة للقياس فلن يصمتوا. المثقف يرى نفسه نبياً أو نصف إله، كما يقول هيكل. سينتقمون من كل شيء، من الأسماء والمؤسسات والزمن. قبل أيام نال حسن داوود جائزة نجيب محفوظ عن “لا طريق إلى الجنة”. سرعان ما خرج إلى وسائل الإعلام قائلاً: الأسواني سرق عملي وكتبه في “عمارة يعقوبيان”، أما يوسف زيدان فليس روائياً وعزازيل لا تستحق أي مجد. كان واضحاً أن داوود، وهو يفوز بجائزة كبيرة لأول مرة، وبعد حوالي ١٣ كتاباً، رأى أن فرصة الانتقام قد حانت. راح ينتقم في كل الجهات من كل من يعتقد أنهم نصبوا له المتاريس..

الفلسطيني الشجاع، والخلاق، غسان كنفاني أخبرنا في “في الأدب الصهيوني” أن لجنة نوبل منحت كاتباً إسرائيلياً في خريف ١٩٦٧ الجائزة لتجمّل وجه دولته العدوانية. وأن اللجنة لم تجد من قيمة أدبية عظيمة تشير إليها في بيانها سوى جملة “يكتب بلغة عبرية جميلة”. عندما قرأت كتاب كنفاني صغير الحجم في شارع فرعي في مدينة حلوان، في صيف العام ٢٠٠٨، قلتُ إن الرجل يكتب نضالاً لا نقداً. لكن أحد أمناء جائزة نوبل قال بعد ذلك إن الأمانة اختارت الشاعر “عزرا باوند” للفوز بجائزة نوبل لكنها تراجعت في الساعات الأخيرة عندما تناهى إلى علمها أن الرجل تحدث إلى راديو إيطالي مطلع الأربعينات.

سيبقى الأدب/ الفن معذباً بين الجوائز والتقديرات، أن تمنح جائزة “كمية” على عمل غير قابل للقياس، وأن تخضع الفن لشروط من خارجه. يكتب المبدع ليحوز “الشرف” بالمعنى التاريخي: أي اعتراف الناس به. وفي كل مرة يفشل المبدع في الحصول على جائزة يجتاحه وهم أنه سُلب شرفاً ما. كان نيشته يقول “أكتب لمن يأتي بعد ٤٠٠ عام”. أما بلزاك فكتب إلى معلمه ستاندال حول صومعة بارما: يا له من عمل عظيم لن يعترف به في أوروبا سوى ألف شخص أو أقل، وهذا ما ستحصل عليه قبل أن تموت. قلتُ لمحمود ياسين: بعد موتك سيأتي جيل يكتشف ما فعلته ويمنحك مجداً. أجابني ياسين، غاضباً: أريد مجداً في حياتي، لا حاجة لي بمجد ما بعد الموت. لمحمود مجد، لكنه لا يراه.

قبل عام ونصف التقيتُ الصديق محمد العلائي في صنعاء، وكان محمود ياسين معنا أيضاً. تحدث ياسين كثيراً عن “البحث عن الزمن المفقود” لبروست. العلائي ذهب يستعيد مشاهد جمالية من ذلك العمل الفريد. قاطعتهما وقلتُ: عندما قدم بروست عمله إلى الناشر تلقى رداً بعد أسابيع. جاء في ذلك الرد، كما كتبه الناشر: اعذرني، ربما يكون تقييمي ناجماً عن قلة ثقافتي، لكني لا أفهم ما معنى أن يكتب الرجل ٣٠ صفحة ليتحدث فيها عن كيف أنه بات يتقلب على فراشه عندما جافاه النوم.

بعد ذلك تحدث النقد الأدبي لأكثر من نصف قرن عن the stream of conciuosness أو تيار الوعي. كان بروست، في تقدير كثيرين، أحد أبرز أيقونات ذلك التيار. وبالطبع: كانت الليلة التي تقلب فيها على فراشه مستغرقاً ثلاثين صفحة هي الصورة الأكثر إشراقاً وتعبيراً..

منحه الناشر الدرجة صفر، ومنحه الناقد العلامة الكاملة. تلك هي الجوائز الأدبية.

أنا أتداعى الآن، ولا بد أن أتوقف. قرأت للتو أحد الأعمال الأدبية التي تأهلت هذا النهار إلى القائمة الطويلة، بوكر ٢٠١٦. لو كنت في لجنة التحكيم لوقفت بكل ضراوة ضد ذلك. وهكذا، كل مغني وليه موال. ليس أحدُنا جيداً والآخر سيئاً، لكنها الجوائز الأدبية، الانطباعات، الخبرات، التفضيلات الشخصية والقياسات الفنية الرياضية، ثم الشروط التي تدرج على الأدب من خارجه.

في أحيان كثيرة تكون الجوائزة محكومة بظواهر فساد، بالطبع. في تقديري ذلك هو الاستثناء، لا القاعدة. ربما كانت المشكلة، في الأساس، تكمن في وجود مسافة واسعة بين كتاب الرواية الحديثة، الرواية الأدبية بفنونها وتقنياتها اللامتناهية كونها مركب غير مستقر بتعبير باختين، ومحكمي الجوائز. ذلك ما يدفع لجان التحكيم إلى تفضيل “الحكاية” على الرواية في أحيان ليست قليلة.
بالأمس، وأنا أفرغ من قراءة عمل أدبي نال جائزة كبيرة، قلتُ لرفيقتي: لو عاد أندريه بريتون إلى الحياة سيموت لتوّه. فقد كان يصرخ، مطلع القرن الفائت: قريباً ووشيكاً ستنتهي الرواية البلزاكية، ستنتهي إلى الأبد. كان يتنبأ برواية سوريالية مفتوحة وغير مستقرة. لكن صديقي سيد قال بثقة، وأنا أحدثه عن الفكرة نفسها قبل ذلك: في الأخير فإن الناس تبحث عن حدوتة، ولا أتوقع تغييراً كبيراً في المستقبل.

طابت أوقاتكم..

م. غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫28 تعليقات

  1. لقد قلت أكثر مما نود ان نقوله لك في هذا الموقف الطامح الجامح،المتحسر في آن على العبثية،عبثية أولئك، لا على ما قدمت من معارف أدبية رائعة.
    ستصِل إلى ما تبتغي قريبا،اجزم على ذلك.

  2. صحيح ان ليو يخسر دائما، لاكن ليو الآخر في الأمس فاز با أفضل لاعب في العالم للمره الخامسة بعد أن كان الأطباء يقولون إنه لن يكون قادرا على المشي في يوم من الأيام ، القليل من الصبر وسيأتي كل شي إليك .

  3. اريد منك يا دكتور مروان ان تكتب عنوان لرواية يكون كماركة عالمية للعطور وننتج بهذا الاسم عطورات( فرنسية) بمعنى ذوق غربي …ولك ان تتخيل كم مليوون دولار ستكون في حساب هذا الاسم …(لا اخفيك انا ابحث عن افضل (اسم ) لمؤسسة ناشئة في مجال التجارة العامة والعطور)

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى