كتّاب

طريق الآلام….


طريق الآلام.

خريف 2010 وُجهت لي دعوة لإلقاء نظرة على مركز القلب في المستشفى العسكري، صنعاء. كان كل شيء لامعاً: غرف العمليات، الأقسام، أشعة الرنين، العناية. أخبروني عن معمل للقسطرة القلبية، لم أزره. كان المناخ السياسي لاهباً: ألغى صالح تسوية سياسية غاية في الأهمية كان حزبه قد توصّل إليها مع اللقاء المشترك [لو لم يقدم على فعله ذاك لكانت أقدار اليمن قد تغيّرت]، استياء شعبي متزايد، أنباء عن توتر داخل المؤسسة العسكرية، الصحافة تخوض معركة انتحارية مع النظام، البرلمان آلَ إلى حلبة صراع مميت، استياء واسع في الجنوب، تنظيم القاعدة يتوسع في صحراء الشرق، حرب صعدة السادسة للتو وضعت أوزارها، الإماميون يحضّرون لحرب سابعة، البطالة سادت الأجواء، كل شيء ذاهب إلى الهاوية. قال لي المسؤول الذي اصطحبني ليريني الإنجاز:
“انظر، هناك أشياء رائعة تحدث ولا يكتُب عنها أحد. أخبر الناس عن هذا الإنجاز الذي شاهدته بعينك”.
أعضاء فريق الهندسة الطبية، بعضهم أصدقائي من أيام القاهرة، يبتسمون، فخورين بالمنجز الذي أسهموا في خلقه.

تعرّفت إلى جراح قلب ألماني كان يدير المركز، ربما كان في سن التقاعد، مستاء من كل الدنيا. عدت إليه مطلع العام اللاحق، 2011، حاملاً “أوراق أبي”. تبادلنا النقاش حول القصة المرضية.

أصيب والدي بالسل الرئوي قبل ذلك بعامين، 2008-2009. كنتُ في مصر آنذاك، وراح بعض الزملاء في اليمن يتعاملون معه بوصفه مريضاً ب”التيفوئيد”. هناك بدأت القصّة، وكان ذلك هو الخطأ الذي سيقتل على مهل.

غادرت مصر – بعد الانتهاء من المجستير- وحين رأيته راعني وضعه العام. سرعان ما توصلنا إلى التشخيص ودخلنا في مرحلة أليمة من العلاج والركض والمتابعة، إلى أن خرج من السل الرئوي. وقف أطباء الصدر، من الأصدقاء والزملاء، إلى جانبي في الرحلة التي اجتزناها معاً. غير أن مشكلة عويصة كانت تجري في مكان آخر: كان الغشاء المحيط بالقلب [التامور] قد التهب بفعل السل، وانطلقت عملية تكلّس مستدامة آلت بنا إلى الحدث الأكبر بعد زهاء 12 عاماً. قال المنيباري، وزير الصحة الأسبق، لوالدي، وهو يشير إليّ: ظننتك الولد وهو الأب. كانت تلك المجاملة هي ما أراد والدي سماعه في حفلة الآلام. أجرى المنيباري فحصاً بالإيكو، تناقشنا حول ما نراه، قال: صورة كلاسيكية لما تسميه المراجع القديمة بالقلب العظمي Bony Heart. الطبقة الكلسية صارت من المتانة بمكان حتى إنها أخذت شكل لوح عظمي محيط بالقلب. بتنا الآن نعرف المشكلة كما هي، وصرنا قادرين على تخيّل تعقيداتها ومستقبلها.

في الأسبوع الأوّل من فبراير 2011 أدخل والدي مركز القلب، المستشفى العسكري، صنعاء. علينا أن نبدأ الحكاية من بدايتها: فحوصات، أشعة مقطعية، قسطرة قلبية، تقييم عام للحال، ثم عملية جراحية [أو مغامرة جراحية] لإزالة الطبقة الكلسية المحيطة بالقلب.

كان والدي سعيداً بلون الرعاية التي يتلقّاها. من وقت لآخر يخبرني الجراح الألماني [لا أتذكر اسمه] عن مخاوفه من العملية، إذ أنّ خِبرته مع هكذا مرض محدودة. هذا ما سيقوله لي جراحون ألمان آخرون بعد انتقالي للعمل في الغرب، غرب ألمانيا. يستحسن أن تجرى مثل هذه العمليات في بلد يملك خبرة معها كالهند، قالوا.

بعد أن أخذ وردّ تقرّر أن نجري العملية. الأسبوع الثاني من فبراير ينقضي، الأجواء تتغير في سماء البلاد، اضطرابات واسعة في بلدان عربية كثيرة، اليمن يلتحق بقافلة الاضطرابات.

أخرج والدي من المستشفى مع التأكيد على أنه سيتلقى اتصالا يخبره بموعد جديد للعملية. رتّبتُ بعض المسائل اللوجيستية وغادرت إلى ألمانيا، 18 فبراير. سرعان ما غادر الجرّاح الألماني بلادنا إلى الأبد. توقف كل شيء في البلاد.

عدت بعد عامين، 2013، التقيت والدي [كانت آخر مرة التقيه فيها]، لاحظت أن الأدوية أعطت نتيجة مقبولة عمليّاً. صار بمقدوره أن يقطع مسافات طويلة مشياً، يصعد سبعة أدوار دون توقف. مازحته: بسببك سأشك في الطب. يقول: الحل في العسل. كان يؤمن بالطاقة السحرية للعسل، ويقدّر الأولياء حين يسمع أن الأطباء لم يجدوا حلاً. استعاد والدي نصيباً من صحّته، بعد أن شفي من السل الرئوي، واتخذ موقفاً حاسماً من “ثورة فبراير”. ليس فقط لأنها تسببت في إخراجه من المستشفى، بل لأمور عامّة مركّبة: فقد كان شديد الحماس لصالح، كان معجباً برجال دولته، يتابع تفاصيل السياسة، أدق التفاصيل. حتى إني قلتُ له في رسالة صوتية قبل عام: لطالما تمنّيتُ أن أسمع منك رسالة واحدة لا تبدي فيها آراءك السياسية، رسالة تخبرني فيها عن صحتك وعن أمّي. كل رسائله الصوتية، بلا استثناء، تحدثني عن الناس الذين يموتون جوعاً، عن الخوف، العزلة، وعن حاجة الناس.

خلال العام الماضي ساءت حالته، وكعادته أخفى عني الخبر. كان يحدثني عن البروستات، وسوء الهضم. طلبت منه أن يجري فحوصات قلبية ولكنه عاد بفحوصات أخرى. كان يهرب من شيء ما. أدركتُ أن مشاكله القلبية لم يعد بالإمكان المناورة معها بالأدوية، عرضت عليه مغادرة البلاد. الإجابة لا، ولا مكان للنقاش. إذن فلتسافر إلى صنعاء. الإجابة لا. يتمهّل، يقول في رسالة أليمة: شكمُل بالطريق، إيش يوصلنا لعدن والا صنعاء.

وما العمل؟ أسأله، يجيب: أجري العملية في تعز. لم أكن أعرف أنه صار ممكناً أن تجرى عمليات قلب في مدينة تعز، المحاصرة والفقيرة، التي تنزف كفاءاتها منذ نصف قرن. تحدثت إلى الدكتور طارق نعمان، ناقشنا الممكن والمستحيل في حالة والدي، وانتظرنا عودة الصوت الثالث: أبو ذر الجندي، الذي كان مسافراً خارج البلاد. التقى والدي بجراح القلب الدكتور الجَنَدي، نجل السياسي المعروف. ذهب والدي إليه وعاد بقلب مطمئن. على الهاتف راح يقصّ عليّ انطباعه العام، مركز جديد للقلب، أجرى 300 عملية قلب خلال عام واحد، عمليات أوعية دموية بالمئات. منح والدي الدكتور أبا ذر الجندي كل إيمانه، كتب وصيته، اشترى قبراً، وذهب بقدميه إلى المستشفى.
استغرقت العملية حوالي خمس ساعات. اجتازها. أجريت العملية ببراعة. في العناية المركزة انهارت الدورة الدموية. القلب الذي أطلق من القفص لم يستطع أن يتعامل مع الوضع الجديد، فشل على نحو مخيف. جر معه الفشل باقي الأعضاء: الكلية والكبد. صرتُ جزءاً من الفريق الطبي، وتلك تجربة مروّعة، أن تستشار في الوضع الحرج لأقرب الناس إليك، مع احتمال أن تفضي آراؤك إلى نتائج معاكسة. بعد أقل من 12 الساعة أعيد إلى غرفة العمليات، فتح صدره من جديد. شك الجرّاحون بنزيف داخل التجويف الصدري. فوراً قمت بإبلاغ كل أهلي بالتقدير العام للموقف: من المحتمل أن والدي لن يجتاز هذه الليلة العصيبة.

غير أنه اجتازها.

خرج من العملية الثانية. استعاد قلبه كفاءته، عادت الكلى إلى وضعها الطبيعي، خرج من غيبوبته، جلس على حافة السرير، وحدثني في تسجيل مصوّر. بالنسبة لي فقد حدثت معجزة. بعد حوالي أسبوعين كان يتمشى مستنداً إلى شقيقي في كوريدور القسم. وبعد أربعة أسابيع غادر المستشفى إلى المنزل. لقد نجحت المهمة، خسر 22 كغم من وزنه، من المياه التي تكدست في كل جسمه بسبب فشل القلب. صار مستعداً للعودة إلى الدنيا، أراد أن يهاتف أصدقاءه، لقد عاد.

سرعان ما ساءت حالته العامة.

تحدثت إليه بالصوت والصورة، أخبروني أنه مكتئب بعض الشيء، وعندما تحدثت إليه رأيته عاجزاً عن متابعة ما أقوله، يفتح بصعوبة عينيه. أعيدوه فوراً إلى المستشفى، قلتُ لهم. نُقل إلى العناية المركزة، التهابات بكتيرية في الدم، صدمة “إنتانية”، ظنون عن انتعاش جديد للسل الرئوي، سلسلة من الحدوس الإكلينيكية، نزيف في المعدة تحت تأثير مميعات الدم، كل ذلك معاً. في نهاية المطاف استطعنا إخراجه من العناية المركزة، أبلى الأطباء بلاء حسناً، واجهوا كل تلك التعقيدات في ذلك المطرح المعزول من العالم. عاد والدي إلى القسم، لقد أفلتَ مرّة أخرى من الأقدار. صار في حال أفضل، وبات قادراً على أن يقول لأخواته إنه بأحسن حال.

في تسجيل مصوّر رفع إبهامه محاولاً الابتسام، قال: أنا بخير بخير. أراد أن يحلف، اكتفى بتحريك شفتيه.

أصحو على الفجر لأجد رسالة من طبيب العناية المركزة: الوالد عاد مجدداً إلى العناية المركزة، انخفاض في الوضع العام، الضغط، وصعوبة في التنفس. يقضي خمسة أيام في وضع على الحافة. ثمّة قيح في مكان العملية، التهاب في الرئة، تفاصيل أخرى. اجتاز العناية المركزة للمرة الثالثة. عاد إلى القسم مجدداً. طبيبة القسم تلتقط صوراً للملف الطبي وترسلها إليّ، أراجع معها قائمة الأدوية، أطلب إجراء أشعة مقطعية على الصدر، يصلني التقرير. الأمور تجري على ما يُرام، الأطباء الصغار يعرفون ما الذي عليهم فعله. لا بد وأن الدكتور أبو ذر الجندي راض عن الفريق الذي يعمل معه. لا نكف عن تبادل الرسائل، أبو ذر وأنا، يخبرني عن معملين للقسطرة القلبية قادمين إلى تعز، من السعودية وقطر. نقترب من “شهران كاملان في المستشفى”.

في الأيام القليلة الماضية كان كل شيء على ما يُرام، أصبحت الأسرة تستعد لاستقبال مريضها في المنزل.

أصحو على رسائل، مكالمات، عزاءات: الوالد في ذمّة الله.

رسالة من طبيبة القسم تشرح، رسالة من طبيب القسم: أصيب بكتمة نفس مفاجئة، الثانية فجراً. وضع على قناع للأوكسجين، وقبل أن يصلوا إلى السبب (قد يكون جلطة رئوية حادة، أو سواها)، توقف النشاط الكهربائي للقلب. أجريت له عملية إنعاش، استمرت زهاء نصف ساعة.

فاضت روح والدي في نهاية المطاف، ودُفن إلى جوار والده الحاج الغفوري.

قام الزملاء في “مركز القلب والأوعية الدموية”، مدينة تعز، بعمل بطولي على كل المستويات. كنتُ على اتصال بأغلبهم، طبيبات وأطباء وفي المقدمة قائد الفريق الدكتور أبو ذر الجندي.
يبدأون يومهم “الجراحي” قبل طلوع الشمس، وهكذا كل يوم. مصباح في الظلام الكبير، يستحق المركز العون، الإشادة، وكل الحماية.

اللهم إني استودعك والدي وصديقي أحمد الغفوري.
كن رفيقه،
امحُ بآلامه خطاياه،
وامنحه مكاناً يليق بجلالك وكرمك.
آمين.

مروان أحمد

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫46 تعليقات

  1. امين يا رب العالمين. عظم الله اجرك يا مروان و منحك الصبر و رزق والدك منازل الصابرين على الداء غسله من ذنوبه و اسكنه اعلى درجات الجنة مع الشهداء و الصالحين

  2. يا الله على كم الألم الذي عشته أنا و كأني أقرأ تفاصيل تخص أبي رحمه الله و قدماي التي لم تعد تعرف سوى مشاوير إلى الاطباء و المستشفيات
    رحم الله والدك و أمي و جميع من فقدت
    د. أبو ذر الجندي يحب عمله جدآ و هذا ما أكدته انت

  3. عند جملة مروان أحمد ذرفت دموعي بشدة.
    لم أفهم لماذا لكن أثق أن شعورك وصلني كاملاً من توقيعك.
    الرحمة لوالدك العظيم وخالص المواساة لقلبك ومن تحب يا مروان أحمد.

  4. رحمه الله وجعل الجنة مثواه
    اعظم الله اجركم واحسن عزاكم دكتور مروان
    وانا لله وإنا إليه راجعون
    خالص العزاء والمواساة لك ولجميع اخوتك الأعزاء عبدالغفور و أبو أمير الغفوري
    فعلا يبذل د. ابا ذر و فريقه في مركز القلب مجهود جبار للتخفيف على المرضى داخل المدينة وقطعوا شوط طويل واجتازوا مراحل صعبة بتجهيز وتمويل المركز ومازالوا بحاجة للمساندة منا جميعاً لاستمرار العمل فيه

  5. الله يرحمه ويسكنه الجنه الدكتور ابوذر استطاع في فهذي الوضع ان ينشئ مركز قلب محترم في مدينه كلها مدمره كل الشكر للدكتور ابوذر وفريقه

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى