صديقي المثقف الجميل والحقيقي محمد عمراني قرأ “طريق الحوت” وكتب عن تجربته مع النص…


صديقي المثقف الجميل والحقيقي محمد عمراني قرأ “طريق الحوت” وكتب عن تجربته مع النص.

طريق الحوت، الطريق إلى الظلمات السعيدة
محمد عمراني.
——

من اللحظة الأولى التي تدلف فيها إلى طريق الحوت تبدا رحلة المغامرات والتيه , حتى الكتابة عن طريق الحوت مغامرة كبيرة .
إنها روايات في رواية ، إنها سردية كتبت للخلود .
الرواية لاتتحدث فقط عن طريق الحوت ، إنها بذاتها طريقا للحوت آخر يضعك من الوهلة الأولى في تحد الذكاء وتحد القدرة على القراءة وتحدي المغامرة في بحر يتعرج كلما اوغلت فيه ويوشك ان يلقي بك جثة هامدة على شاطئ الرواية اذا مافقدت بعض التركيز .
تنطلق من الحاضر الى الماضي ، او لعلها من الماضي الى الحاضر ، عبر رحلة انطلقت قبل قرنين ونصف من الزمان من الدنمارك ووصلت للتو في سواحل اللحية في اليمن الذي يسمونه سعيدا لتدفن كل ابطالها خلا واحدا ، تأكلهم الملاريا ويبتلعهم البحر وهم يبحثون عن امرأة وعن الظلمات وعن البلاد التي كتبت في الاسفار باسم البلاد السعيدة .
تأخذك الرواية في دهاليزها ، بقلم ساحر وتفكير مدهش يضعك في بداية الطريق ونهايته في ذات اللحظة ويتركك ترتب أوراق الرواية ومتاهاتها التي تشبه احداث الفيلم الشهير The inception ، الحلم داخل الحلم ، الماضي في الحاضر ، الحاضر في عمق الماضي والزمن على امتداده معدوم بالكلية والحاضر يتموه على صورة تاريخ .

قرأت ” أن الروايات عكرت ذاكرة دون كيشوت ولم يعد يفرق بين الخيال والواقع بين الحلم واليقظة وبين الماضي والحاضر ” تذكرت ذلك بينما كنت أبحر مع طريق الحوت حيث يصبح الابحار الى اليمن السعيد رحلة مضنية إلى الماضي السحيق ، إلى بلاد الظلمات .

إنها رحلة في الدين البارد والميثولوجيا الحارة ، ورحلة أخرى في عوالم المرأة التي تبدو الحياة كأنها خلقت لأجلها والحرب في نهاياتها تفضي إلى امرآة وهي طريق الملوك للخلود ، لقد كانت الرحلة كلها من اجل امرأة وانتهت الرحلة بين احضان امرأة ، ورحلة في البحر وعالمه الغامض غموض النبوءات ، ورحلة في التاريخ حيث الرحلة حدثت فعلا قبل زمن سحيق حتى وإن كان أبطالها ينبضون بالحياة ويقلبون دفاترهم ليختاروا طرق موتهم بعد كل هذه العقود والقرون ، هي أيضا ورحلة في الانثروبولوجيا وعوالم النفس وعمقها الرهيب .
إنها رحلات كل واحدة منها طريقا للحوت ، كلها تخوضها مرة واحدة بين دفتي كتاب صغير يسافر على طريق مغامر هاربا من الحياة الى الموت باحثا عن الحياة .
بين فاطمة وسيلفيا ، بين الفيلسوف هوفن الذي أرسله ملك الدنمارك مع فريق قبل قرنين ونصف إلى العربية السعيدة لاستكشاف الظلمات التوراتية ، وبين هوفن الذي قال في آخر اعترافاته إنه ليس ابن أبيه ، بين نيبور الذي جاء إلى السعيدة في رحلة دينية وعلمية في آن وبين نيبور ذاته الذي يعمل في موقع للجنس يؤجر نفسه للبغايا ، بين زمن الحاكم اسماعيل وبين زمن الحوثي ، بين ايسن الألمانية واللحية اليمنية ، من كنيسة نيكولادوس الى باب اليهودي موسى الذي اسلم ليبيع القبور للغرباء في الباب الذي عرف باسمه كأحد ابواب مدينة تعز الشهيرة ، ثم مع كلبين كأنهما عاشقين أو ربما قديسين امتهنا التشرد الذي فرضته الحرب وعاشا على الارصفة يمارسان الجنس ويحضران الصلاة في الكنائس .
بين النمط الأوروبي الصارم في الحياة والعبودية الجديدة التي خلقتها الرأسمالية وأزمنة مابعد الحداثة ، زمن المضاجعات السهل والعمل الصعب الذي يحيل الإنسان لآلة جامدة مهمتها تكديس الاموال في خزائن الاثرياء ، الزمن الذي كتب عنه ماكس نودان قبل قرنين في كتابه “الانحطاط ” باعتبار الانحطاط صار مسألة نفسية بيولوجية اكثر منه شيئا آخر .
تغوص الرواية في تفاصيل المجتمعات الاوروبية المفتوحة التي يستعرضها الكاتب عبر انماط الحياة الحديثة والعلاقات بين المجتمت والدين وبين الشارع والكنيسة وبين الغابة والدير . الحياة التي تعرض بعضها الاعترافات لأبطال الرواية بالذنوب ، ثم إشارات مهمة عن المجتمعات العربية التي تحرس القيم في الشارع وتنتهكها في الأعماق ، حيث انتصار القيمة في العلن وانهزامها في السر .
انه عرض للروح في لحظتها العارية او تعبير مقتدر عن حالة انكشاف للفرد والمجتمع ، عرض يجمع بين التوصيف الشجاع والنقد اللاهب . بين العمل الروائي والتحليل العلمي في ذات الوقت ، بين الرمزية والمباشرة في آن واحد .

قبل زمن بعدما اكملت قراءة ”كائن لا تحتمل خفته”، عمل كونديرا الخارق ، قلت في نفسي لو قدر لهذه الرواية ان تكون فيلما سينمائيا فإنه سيصنف من افلام البورنو ، كان التعري يغطي الرواية من البداية حتى اللحظة الأخيرة ، من بابها وحتى السقف الأخير ، حتى تشعر حين تقرأها بأنه كان عليك ان تقرأها عاريا . بعد اعوام قرأت تعليق المثقف الكبير على عزة بيجوفيتش على الرواية ، قال إن العري الذي اختاره كونديرا في الرواية عن طريق بطلته كان يشير الى عري الحقبة الحاكمة التي حكمت المجتمع بالقهر والأذلال ، بمعني أكثر توصيفا كانت الحرية الجنسية هي الطريقة التي يعبر بها الكاتب عن انعدام الحرية السياسية ويكشف بها حقيقة المجتمع المكبوت .
ولست أدري إذا كان هناك من سيقرأ رواية طريق الحوت بهذه الرؤية العميقة والمتجردة التي تفصل الكاتب عن الحدث الروائي وتنفذ إلى العمق بدلا من دهشة الاحداث على السطح .

إن العمل الأدبي محدود القيد هو الأكثر تعبيرا عن الطبيعة البشرية ، ولهذا قرأنا أن الإسلام حين جاء تأثرت حركة الأدب العربي وصار النقاد يسمون الشعر القديم بالشعر الجاهلي الذي يؤمن اغلب النقاد بانه كان الأكثر تعبيرا عن العربي وطبيعته ونفسيته وخفاياه .

فالرواية ليست قانونا في الأخلاق ، بل بحثا وراء السلوك ، إنها غوص في أعماق الإنسان وحديثا شجاعا عن مكنوناته وصراخا عاليا عن ما لا يمكنه التعبير عنه أو حتى البوح به .

لاشك ياصديقي .
إنها مهمة شاقة أن تكتب لجمهور يحاكم الكاتب باعتباره بطل الرواية معتمدين على فهم سقيم للمقولة المشهورة “إن كل رواية هي سيرة ذاتية عن صاحبها ” !!!!!! .

إن طريق الحوت ياصديقي عمل يصعب قراءته فضلا عن كتابته وتخيله وابتكاره ، لقد قراتها اكثر من مرة، وفي كل مرة كنت اجد طريقا آخر في “طريق الحوت “طريقا لايشبه سابقيه .

عدت الى جوجل مرات عديدة وانا شخصيا لا احترم كتابا لا احتاج معه الى جووجل ، حينما تقرأ كتابا لايثير اسئلة ولا يضيف اليك اسئلة للبحث فإنه غالبا يكون كتابا اقل من ان تحتاج اليه .

هذه الرواية باعتقادي الخطوة الأولى الذي ستضع الكاتب على أعتاب العالمية باعتبارها طريقا جديدا للكتابة لا يمكن لأي أحد أن يتجرأ على هذا الطريق المحفوف بالخطر والمصاعب والآلام مالم يمتلك الكثير من الخيال والجرأة والشغف والشجاعة والقدرة على التحدي .
إنه طريق شاق وعميق ومظلم .
إنه طريق الحوت .
او لنقل إنه الطريق الى الظلمات
أو أنه الطريق إلى بلدنا السعيد .

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version