أمضيت أسبوعاً في لندن، المدينة التي حكمت كل الأمواج….


أمضيت أسبوعاً في لندن، المدينة التي حكمت كل الأمواج.
قلتُ لصديقي محمد سيد حسن، الشاعر والطبيب، ونحن واقفان أمام مطعم “ملكة سبأ”: أشهى المطاعم هي التي لا يعرفك فيها أحد. هز الصديق رأسه وقال “عشان نلغوص براحتنا”. وقلت، مصدّقاً: فعلاً، عشان نلغوص براحتنا.
الشاب الذي أعطانا فاتوة الحساب بدا عليه أن السنين أخطأته كثيراً، أو أنه أخطأها.
سألني وهو يلتقط الحساب “أنت من تعز؟” أجبته: أنا من تعز. قال الرجل وهو يسوق كرشه الصغيرة أمامه: “أنتم مخربين، خربتم البلاد، والله لتبكوا على الزعيم العمر كله”. سألني صديقي، ونحن نغادر المطعم تاركين الرجل يسوق كرشه حتى الأبد، ما إذا كانت “عاصمة الأمواج” قد علمته شيئاً ما، فأعدت عليه السؤال ذاته.

في اليوم الثاني التقيت الصديق محمد أبو الغيط، الصحفي المرموق، وقضينا نصف نهار. بدا نهراً لا يجف، حتى إنه كان على صلة معقدة بالموضوع اليمني وتفاصيله.
نهار اليوم الثالث التقينا الصديق المثقف هيثم راوح، وضللنا الطريق.

بعد أربعة أيام غادر محمد سيد إلى ساوث هامبتون، حاملاً معه أشعاره التي لا يكف عن كتابتها. قال، وهو يستعد للمغادرة: “لمّيت تعابيني”
وأشار إلى حقيبته.

في ذلك المساء التقيت الروائي المدهش همدان دماج، صحبة المعلم الراسخ د. محمود العزاني. أمام متحف العلوم الطبيعية التقيت العزاني أخيراً، وجلسنا نتذكر لقاءنا الأخير. قال “في منزل الدكتور شديوه” قلت “في منزل الدكتور الحريبي”، قال “في ٢٠١٣” قلت “في ٢٠١٤” .. ومضينا.

جلس عارف العزاني، الصديق القديييم، ينتظرنا في هيس، من أحياء لندن الطرَفية. وصلنا متأخرين ووجدنا الرجل قد أعد: بنت الصحن، السلتة، حلة العصيد الرداعية التي تأخذ شكل هرم مسن، وأشياء أخرى غاية في التعقيد. تذكرنا سنواتنا الأولى في مصر، وسائر الأيام، وسهرنا حتى ساعة متأخرة. قال عارف إنه سئم احتكار البشر لبطولات الروايات وإنه يفكر بكتابة رواية يكون “الشيء” فيه بطلاً. قال همدان إن ثيمة البطل تعرضت لانزياحات كثيرة، وأن أمكنة وأشياء حضرت كأبطال، وتذكرنا معاً الجسر في رواية للبلقاني أندريتش، وكيف احتكر البطولة كلها.

في اليوم التالي ذهبنا إلى “سفارة الجمهورية اليمنية”. هناك حضرنا احتفالية مدهشة عرض فيها فيلم عن عدن في زمن الاحتلال البريطاني. الفيلم من إعداد “المركز العربي، ليفربول”، وهو مركز أسسه إنجليز من أصول يمنية. شاهدنا عدن القديمة، وتحدث محاربون قدامى عن المدينة التي أحبوها كل حب، أو تلك التي ملأتهم رهبة وخشية.

قبل عرض الفيلم قال محمود العزاني “السفير ينتظرنا في مكتبه”. ونحن نصعد السلم الأحمر قلت للعزاني “انظر، لا تزال الجمهورية على قيد الحياة” . قال الرجل وهو ينظر إلى قدميه “هذه ليست سوى مخارج للنجاة”.

التقيت ياسين سعيد نعمان، المعلم الأكبر. قال بود، ونحن نتعانق كصديقين قديمين: انتظرت هذا اللقاء كثيراً. وجلسنا نتحدث. أن يجاملك المعلم الأكبر بهذه الطريقة لهو موقف سيصعب عليك نسيانه. بعد قليل التحق بنا همدان دماج. سألت “ياسين” عن الطريق الموضوعي الثالث الذي تحدث عنه السقاف، أمين عام الحزب الاشتراكي، فأجاب الرجل على طريقته: هكذا هو اليسار في كل العالم. تحدثنا عن أشياء كثيرة، وكان “البريجزيت” هو الموضوع الرئيسي. سألني عن موقف الصحافة الألمانية من “البريجزيت”، ورحت ألخص مواقف المثقفين وكتاب الرأي في ألمانيا. حضرنا فيلم عدن معاً، وتحدثنا بعد ذلك. في الاحتفالية القصيرة ألقى “ياسين” كلمة باللغة الانجليزية.

في مساء اليوم نفسه، السادسة مساء، ذهبنا إلى مجلس العموم البريطاني. في القاعة ١٠ في ذلك المبنى المهيب حضر ستة نواب إنجليز عن حزب العمال، جلسوا على الجانب الأيسر من المنصة وجلس ياسين وفريقه على الجانب الأيمن، وفي المنتصف جلست امراة يمنية عينانها مليئتان بالشجن. أدارت المرأة الجلسة بمهارة عالية، وتحدث كثيرون. قالت الكلمة التي ألقاها همدان دماج إن دولاً كثيرة ترى إلى المشكلة اليمنية من زاوية مواقفها من السعودية، كما لو أن اليمن مشكلة سعودية. وقالت الكلمة التي ألقاها ياسين إن أصل الصراع في اليمن هو الموقف من الديموقراطية، وأنه تفجر في اللحظة التي اتفق فيها اليمنيون على نظام ديموقراطي عادل، وقبل أن يصير ذلك الاتفاق إلى دستور جديد.
تحدث “الخواجات العمّاليون” كثيراً، وبصوت مرتفع. وقالت مداخلة لعيدروس النقيب إنه سيكون من الأفضل لو أن حزب العمال طوّر مقاربة جديدة للمشكلة اليمنية تنطلق من “حقيقة أن اليمن كان دولتين، وأن الحل ربما يكمن في العودة إلى تلكما الدولتين”. وألقت فتاة يمنية قصيدة قالت فيها “آي لاف يو” أكثر من عشر مرات. تداخل أكثر من عشرة أشخاص، وباستثناء الفكرتين الجوهرتين اللتين طرحهما همدان دماج وياسين سعيد نعمان عن طبيعة الصراع في اليمن، وطريق الخروج، فإن باقي ما قيل في تلك الجلسة، بما في ذلك المقاربات العاطفية للنواب العمالين، كان كارنڤالياً .

قبل ندوة مجلس العموم، أمام المبنى المهيب، التقيت عيدروس النقيب لأول مرة. قال مجاملاً “أعرف مواقفك وكتاباتك جيداً، وبصرف النظر عن كل شيء فإن ما يلفت انتباهي هو لغتك وخيالك، حتى إني قلت لنفسي أكثر من مرة لماذا لا يكتب هذا الرجل الرواية”. دسست يدي في شنطة صغيرة وأخرجت له نسخة من “طريق الحوت”، فتأملني بذهول بليغ. قلب الكتاب بسرعة، ثم جلس على كرسي قريب وواصل تقليب الكتاب. في بهو مجلس العموم اقترب مني رجل أنيق وسألني متردداً “أنت مروان الغفوري؟” عرف بنفسه “أنا السفير عبد الوهاب طواف”. طاف بي عبد الوهاب في ألف موضوع خلال دقائق، وبالطبع: على طريقته. حتى إنه نسي أن يسألني عن حالي، أو يطرح علي تلك الأسئلة الاعتيادية مثل: لماذا أسميت نفسي مروان الغفوري مع إن اسمي مروان عبد الغفور. لم يطرح علي سوى الأسئلة الجمهورية، وتبرع بالإجابة.

في اليوم التالي زرت متحف العلوم الطبيعية مرّة أخرى، وغادرت إلى ألمانيا..

م. غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version