كتّاب

زغلة وحراكة وبُحلق…


زغلة وحراكة وبُحلق
بدائع الاسماء المصرية: (1 من 3).
للاسماء فى مصر القديمة حكاية خاصة ومميزة وشديدة الأهمية، فقد كانت لها قوة تختزل هوية الشخص وكينونته وتقوم مقامه وتحل محله ولهذه الأسباب كان الميت فى تضرعه الأخير أمام محكمة أوزوريس وبعد أن يقسم القسم الإنكارى ويشهد قلبه على صدقه حين يكون أخف من ريشة العدالة “ماعت” وهو يوزن فى ميزان الحق يقول:”لك الخشوع يارب الضياء.. أنت يامن تسكن فى قلب البيت الكبير..يا أمير الليل والظلام.. جئت لك روحا طاهرا فهب لى فما أتكلم به عندك وأسرع لى بقلبى يوم أن تتثاقل السحب ويتكاثف الظلام ..أعطنى اسمى فى البيت الكبير وأعد إلى الذاكرة اسمى يوم أن تحصى السنين” .. فيرد عليه أوزوريس:” هاهى عظامك تتجمع.. وقلبك يعود إليك وأعداءك تحت أقدامك يسحقون .. ها أنت فى صورتك الجميلة تحيا وتبعث كل يوم شبابا من جديد..إنهض فلن تفنى أبداً .. لقد نوديت باسمك لقد بعثت”
ولقوة ذلك الاسم والدور الذى يلعبة كان أقسي عقاب يوجه لملك أو أمير راحل أن يُمحى اسمه من على تابوته، وهو ما يعنى أن تظل روحه تائهة تبحث عنه لكى يُبعث، ولهذه الأسباب تعودنا أن لا نقول اسم “السرطان” مثلا ونكتفى بقولنا: المرض الوِحِش، أو نقول: يا جماعة افتكرولنا حاجة كويسة، ونقول: ربنا يجعل كلامنا خفيف عليهم أى خفيف بحيث لا ينبههم فيحضروا.. ونقول عن المريض: فلان بعافية كنوع من الدعاء لله ليستبدل بالمرض الذى حل به “العافية”.. وكنت وأنا صغير حين أقوم بعمل فظيع – وما أكثرها – تدعو عليّ أمى قائلة: روح إلهى ينخفى اسمك..وربما يكون الفعل أكثر فظاعة فتكون دعوتها علىّ: روح إلهى ينخفى اسمك وينمحى رسمك، وهى دعوة فرعونية تعنى الحكم على الواحد بالفناء الأكيد، ونحن نشتم فلانا قائلين: مخفى الاسم أو المخفى
لكل هذا اعتاد كثيرمن الناس فى مصر أن يسموا ابنائهم وبناتهم باسماء جداتهم وأجدادهم المحبوبين حتى لو كان الاسم قد أصبح قديما ومهجورا وكانهم يريديون لهم أن يظلوا أحياء، كما اعتادوا أن يسموهم باسماء جميلة ولطيفة ومبهجة، فنسمى من النباتات: وردة وفلة ونوارة ولوتس وسوسن وتفاحة وخضرة، ونسمى من الكائنات: بطة ووزة وبلبل وعصفور وغزال وريم وحمام وكتكوت،
ومن حالات النهار نسمى: صبحي وصباح وصبحية وضحى وشمس وقمر ونسيم ومنير ونور، ويسمى الرجل أو المرأة ابنه أو ابنته على اسم أحب أصدقاءه أو إخوته ليظل ينطق الاسم الحبيب، وقد يسمى الناس أبنائهم مدفوعين بمثلهم الدينية والتاريخية والوطنية.. فنسمي خديجة وعائشة وميريت وايزيس ورمسيس وجيفارا وسعد زغلول واحمد عرابي.. لولا أن منعت الدولة الأسماء المزدوجة، ومع موجة التطرف الديني التي ضربت بلادنا وزيادة تمسك المسلمين بمظاهر هويتهم الدينية راح المسيحين يسموا أولادهم: شنودة وجرجس وميخائيل بعد أن كانوا يسموا رؤوف وتامر وناجي وسعيد
ولحديث شريف “أن خير الأسماء ما حُمِد وما عُبِد”، نجد أن كثيرا من الأسماء من الحمد ومشتقاته: محمد واحمد ومحمود وحمادة وحمدي .. ومن اسماء الله “ماعُبِد” نسمى: عبد الباسط والهادى والمنعم والسميع والراضى والرافع، ونجفل تسمية من: المذل والخافض والجبار والقابض
ومع هذا فلأسباب خاصة نجد اسم: مشحوت وهو اسم تطلقه الأسرة التى مات لها أولاد كثير وتقصد بالمشحوت هنا أنه “مشحوت من الله” والمفروض أن الإنسان لا يسترد جنيها منحه لشحاذ، أما الأسر التى تخشى العين والحسد، فهى تسمى ابنائها: شحات وخيشة ومحروس ومحجوب وقد قابلت مرة شابا اسمه “بعيبش” .. وللتأكد.. “ب ع ي ب ش” وربما للمبالغة فى اتقاء شر العين يُلبسوا أولادهم هلاهيل وملابس ممزقة، أو يمنعهم من الاستحمام وقتا طويلا، أو يكذبوا ويقولوا أنهم أنجبو بنتا
وعندما تتشابه اسماء الأولاد كنا ننادي فلان الكبير وفلان الصغير.. او ننادي مع اسم الولد اسم أبيه، وكانت كثير من الأسر لا تخجل من ذكر الولد منسوبا لأمه إذا تعددت اسماء الذكور المتشابهة في العائلة
ورغم كل هذا عرف المصريين اسماء الدلع التى تنوعت صيغها وأسبابها فمنها ماهو نوع من التخفيف والتبسيط والتودد مثل أن نقول: لنسمة نسوم ولندى دووودا ولفاطمة بطة ولمنى منمن، وتقريبا لكل أسماء البنات مرادف من اسماء الدلع، أو نقول: لمحمود ميدو ولابراهيم هيما أو يقول لى بعضهم كيمو بدلا من كمال، وقد يبالغ بعضهم فى التدليع فيختار للذكر اسم مؤنث مثل: سمرة لسمير، أو سُمعة لعبد السميع أو نورا لأنور.. أو “كمولة” لكمال أو يضع ضمير إضافة لاسم الدلع مثل “كمولتى” وغالبا هذا الأخير لا يكون إلا بين رجل وإمرأة
وأحيانا يكون اسم الدلع لأسباب دينية أو تاريخية كان نقول لابراهيم أبو خليل لأن سيدنا ابراهيم هو خليل الرحمن، أو لحسن أبو على لأن الابن البكر لسيدنا على هو الحسن، ونقول لاسماعيل أبو السِباع، لأن الخديو اسماعيل هو من وضع أربع تماثبل لسِباع على جانبي كوبري قصر النيل، واعتدنا فى الريف تدليع الابن باعتباره أبو أبيه فيقال لي مثلا: أبو حامد لأننى كمال حامد،
وأحيانا يكون اسم الدلع كحل وسط بين طرفين فقد يحب الزوج- مع ناس أعرفهم وأحبهم- تسمية ابنه بديع بينما تحب الأم تسميته زكريا، فيكون الحل أن نكتبه فى شهادة الميلاد بديع ونناديه زكريا، وقد لا يعرف زكريا اسمه الحقيقي إلا وهو يتقدم بأوراقه وشهادة ميلاده للمدرسة، وقد عشت حتى مرحلة الشباب لا أعرف اسم أختى الكبيرة “إنصاف” إلا بعد أن قرأت على شهادتها للإعدادية اسم: “أنيسة” والذى حدث أن أبى المدرس بعد أن سجل مولودته فى الوحدة الصحية أنيسة ذهب للمدرسة ليبشره زملاؤه بأن الحكومة قد وافقت على علاوات “الإنصاف” التى يطالب بها المعلمين منذ سنوات، فعاد لأمى ليقول: هى إنصاف
وقد نطلق على بعضنا اسماء لملمح عابر أو لسمة جسمية واضحة فقد عرفنا من لاعبى الكورة: أوكا وأكمه وأفشة وزغلة وحراكة وسرسق وحُسكة وبُرّيقة وبُحلق، ومنهم من يقبل عن طيب خاطر اسمه الخاص: أوكا .. أو يقبل إضافته لاسمه: محمد أوكا، ومنهم من يكون على استعداد لتكسير عظامك إذا نطقت اسمه وخاصة اذا كان اطلاقه عليه لأسباب تهكمية ومشينة وعدوانية بالغة،
هذا فيما يتعلق باسماء الأفراد.. أما اسماء العائلات فسيكون موضوع حديثى القادم
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى