كتّاب

مأرب بريشة العامر السعيدي…


مأرب بريشة العامر السعيدي

قراءة في التكرار

الباحث/
معاذ غالب الجحافي

في النظر إلى هذه اللوحة العامرة بالشموخ، يلاحظ القارئ- أياً كان- أن ثمة ظاهرة بارزة استند عليها العامر السعيدي في رسم لوحته..، ألا وهي ظاهرة التكرار.
ولأن ظاهرة التكرار من الظواهر البارزة على مستوى الكون والوجود..، قبل أن تغدو في مختلف العلوم- لاسيما اللغوية؛ فلا شك أن العربية قد عرفتها في أقدم نصوصها -الشعر الجاهلي- ثم استعملتها في القرآن الكريم ، ووردت في الحديث الشريف……
ولقد حظيت ظاهرة التكرار باهتمام النقاد العرب قديماً وحديثاً…. فكما أشار إليه (سيبويه) ضمن مباحث النحو، وعدّه ضرباً من التوكيد، تناوله الجاحظ من زاوية مختلفة في كتابه البيان والتبيان..، وعدّه بن قتيبة من مذاهب العرب…، ثم توسعوا في تناوله…، فأفردوا له أبواباً في مؤلفاتهم.. كابن رشيق في كتابه العمدة، وأسامة بن منقذ في كتابه البديع في البديع…. أما المحدثون فقد بذلوا جهودا كبيرة.. في دراسة هذه الظاهرة، فأمعنوا النظر فيها، وبينوا جمالياتها اللغوية، وتجليتها الإيقاعية والنفسية، وأثرها في المتلقي، وما تتضمنه من إيحاءات تدل على حالة الأديب النفسية، وتفاعله مع الأشياء من حوله… كما وقفوا على أهميتها، ووظائفها في العمل الأدبي…
ومن خلال هذه الظاهرة المسيطرة بحضورها الطاغي على القصيدة…، يمكن لأيّ قارئ أن يلج إلى داخل القصيدة بسهولة ويسر..، غير أن ما في الأعماق يحتاج إلى نفس طويل، وجهد كبير، وتمعن، وتمكن وبراعة…، ذلك أن أسلوب السعيدي(السهل الممتنع) قد يجعلك تتوهم الوصول، وأنت مازلت في المنتصف، وقد يجعلك تنفذ إلى ما خلفه، وأنت تعتقد أنك لم تصل بعد..، لا سيما في مثل هذه القصيدة التي أثارت في ذهني- حين قرأتها لأول مرة- صوتاً يقول: انظر إلى العنوان، هل وضعه السعيدي بعد فراغه من كتابتها، أم قبل…؟ فإن كان بعد…، فما الذي دفعه لذلك ياترى؟ وإن كان قبل… فلماذا كتب القصيدة؟ ألا ترى أن العنوان كان كافياً، يغني عن القصيدة..؟
صحيح أن العنوان (مأرب) بدلالته الباذخة الشموخ يضمن كل ما جاء في القصيدة، ومثله معه؛ غير أن السعيدي لم يكتف بهذا فحسب؛ بل عمل على تكرار هذا الاسم في قصيدته المكونة من ثلاثين بيتاً (15) مرّة، وجعله آخر كلمة في القصيدة……، فما ترى؟
أرى أن هذا الأسلوب الذي يبدو كالنهر، وهو صرح ممرد من قوارير؛ هو الذي يمكن القارئ من السباحة على سطحه دون عناء، ويوهمه بقرب قيعانه، ويُخيل له أن الغوص فيه كالسباحة….، فما أن يصل إلى عشرين بالمئة، من مسافة العمق الكلي؛ حتى يقف على تلك الأرضية الشفافة، التي قد لا يرى البعض ما تحتها، أو لا يستطيع النفاذ إليه….؛ فيعتقد أنه قد أدرك كل شيء…
وعلى أي حال، سنحاول قدر الإمكان التسلل إلى أعماق هذه اللوحة- العامرة بالشموخ، الزاخرة بألوان الأمجاد الراسخة في جذور التاريخ المعانقة للسماء.. – ابتداءً بالوقوف على العنوان، ثم التدرج عبر أنواع التكرار الحرفي ، واللفظي والتركيبي.
– العنوان : (مأرب)، لسنا هنا في صدد دراسة العنوان؛ فمن الممكن تناوله منفرداً في دراسة أخرى؛ غير أن عنوان هذه اللوحة يجبرنا على الوقوف تحية وإجلالاً أمام هذا الاسم الخالد في هام التاريخ، الشامخ عبر الزمن….، الذي يحمل في طيه آلاف الإشارات الدالة على أنه كان ولم يزل وسيبقى منبع الحضارات، مصدر الأضواء، محراب الأمجاد، مخزن الرجولة، معبد الحرية، قبلة الأحرار، منارة الشموخ، ساحة العز والشرف، والإباء والكرامة…
فهذا الاسم (مأرب)، الذي جعله العامر السعيدي عنواناً لقصيدته، يثمل ألف قصيدة، فلو أنه وضع في صفحة من ديوانه ومضى، لأتعب كل قارئ يحاول قراءته؛ ولن يفي أحد بقراءته، فحين تتراكم آلاف السنين، بمخلتف الأديان والمعتقدات والشرائع والعلوم…، في طي لفظٍ واحد، فمن الصعب على القارئ أن يلمّ بكل جوانبه… وهذا ما نراه في لفظ (مأرب)، الذي ما أن تقف أمامه، حتى يأخذك إلى شتى مناحي الحياة وعلومها ومجالاتها…، فلا تدري من أين تبدأ ولا من أين تنتهي. أيّ أن(مأرب)= (حياة الإنسان بما فيها…)، التي لم ولن يفي بقراءتها أحد. ويمكن أن نمثل لذلك
)مأرب)= (حياة الإنسان… )=(مكان، زمان)= (توسع….)=(علم، عمل)..
)المكان)= (أرض، سماء)=( شمس، قمر، بر…. )
(الزمان)= (…ساعات،أيام…)
التوسع= أسرة=قيبلة= دولة=…..
علم= دين، شرائع، تأريخ…..
عمل=….. بناء… = حضارة…
غير أن القصيدة كما يبدو قد حملت في طيها ما يدل على نوع تلك الحياة، وكأن الشاعر أدرك حجم الدلالة الواسعة التي يحملها العنوان؛ فجاء بالقصيدة ليشير إلى ما يريد… ولعله قد عمد إلى تكراره في القصيدة، للتأكيد على شيء في نفسه، وهذا ما سنحاول تتبعه في التكرار اللفظي.
– التكرار الحرفي: ونقصد به حروف المعاني.
وهذا يتجلى في حرف العطف (الواو)،(38) مرّة، الذي يدل على معنى المشاركة في العمل، ويعزز من الترابط الفني والموضوعي بأجزاء القصيدة، ويعمل على الاستمرارية بين أبياتها، وتوضيح معانيها؛ فضلاً عن أنه يمتد كنهر من الإيقاع الداخلي المتدفق، الذي يحدث في المتلقي تأثيراً يمتد ويسير من خلال حركة الضم الطاغية، على القصيدة، التي تخلق إيقاعات موسيقية متناغمة منسجمة، مع إيقاع حركة القافية المشبعة بالضم. كما تكرر حرف(لا)(12) مرة، نفياً، وجحداً، ونهياً؛ إذ نفى الضعف، وجحد العيب، ونهى عن العجب، فلا تعجبوا من أن هذه المحبوبة قد حوت كل المُثل، وتفوقت عليها، إنها (مأرب)…..
– التكرار اللفظي: هذا التكرار يبرز في لفظ(مأرب)، الذي تكرر (15) مرة، في (14) بيت من القصيدة البالغة 35 بيتاً، فضلاً عن كونه قد جاء في بقيت الأبيات بما ينوب عنه أو يشير إليه (ضمير، رمز… )، وبهذا فإنه قد شغل كل مساحات القصيدة، حتى (فم الأغنيات.. ) يحمل في دلالته ما يشير إلى مأرب، إذ أن البطولات، والانتصارات، والحضارات هي التي تعزف الأغنيات، وتحقق الطرب…، فلا عجب أن تجنبنا الخوض في الدلالة الواسعة التي يحملها لفظ مأرب؛ لنأخذ بعض الألفاظ التي تشير إليه، والتي منها:
– أمنا، (الأم)= الحب، الحنان، العطاء….، الإنجاب، ومأرب هي أم كل العرب.
– (العرش، بلقيس.. )= الملك، القوة، الحضارة…، وهذا يدل على أن مأرب، كما يحمل دلالة دينية تشير إلى قصة ملكة سبأ مع نبي الله سليمان، المذكورة في القرآن الكريم….
– التكرار التركيبي: لقد عمد الشاعر إلى تكرار بعض التراكيب، والتي منها على سبيل المثال: (لعينيك، نكتب، نصلي، ومأرب…)
وقد استهل القصيدة بشبه الجملة ( لعينيك)، بما يدل على الحصر والتخصيص؛ إذ حصر كل ما يكتب وخصصه لعيني حبيبته، ثم كرر هذا التركيب في البيت الثاني للتأكيد..، والتلذذ بذكرى عيني الحبيبة؛ فالعين تدل على الوضوح والجمال وتحمل معنى الحياة…، وهي المصدر الأول للعشق والحب…، وبها ابتدأ.
وفي اختياره ملفوظ(نكتب.. )، الذي يدل على العلم، وعلى العمل بفعل الكتابة، ثمة دلالة فخر واعتزاز بحضارة الأجداد، كونهم من أول من عرف الكتابة بين البشر، بشهادة ما سطروا على تلك الصخور، التي يعود تاريخها إلى ما قبل آلاف السنين، وبهذا فإن الشاعر قد عمد إلى اختيار هذا الملفوظ كحفيد يفخر بأجداده، ويدعو أحفادهم لينظروا إلى أي مدى من الشموخ وصل أجدادهم…، كي ينفضوا غبار الذل والانحطاط…، وينهضوا نحو الشموخ. وهذا ما تعززه ملفوظات البيت الثالث (نقش، أسطورة، كوكب)، التي تحمل معاني العلم والرقي والسبق والقدم، والتفوق والتألق، وتشير إلى حضارة أولئك الأجداد بكل فخر. وقد جمع الشطر الأول من البيت الأول بين ثلاثة مبادئ أساسية لبناء الحضارة، وهي(الحب، العلم، العمل)، وفي جملة (نصلي.. )، الذي يحمل معنى الدعاء، الذي هو مخ العبادة، وهنا نحصل على مبادئ غاية في الأهمية، وهو(الإيمان).
ومن خلال البيت الأول والثاني تتجلى مقدرة الشاعر في الاستبهال، واستخدام التكرار، والتمهيد للحديث عن حضارة الأجداد…، فضلاً عن كون البيتين حملا إشارة إلى أهم المبادئ الأساسية لبناء الحضارة، وهي (الحب، العلم، الإيمان، العمل)، وهذا ما سار عليه الأجداد، وهو ما يجب علينا أن نسير فيه، ولن يكون لنا ذلك إلّا إذا عرفنا من نحن، وامتلكنا زمام أنفسنا. كما أن التكرار يعني الإعادة وتكرار الفعل؛ فأن الجملة الفعلية تدل على تجدد الحدث، وفي هذا إشارة إلى الاستمرار في السعي نحو الشموخ. وكما أن الجملة الاسمية تدل على الثبات والتجدد؛ فأن تكرار جملة (مأرب….. )، يدعو إلى الثبات على المبادئ، وتجدد العزم، وتحديث الأسلوب، ومواصلة السعى نحو الهدف…، أي أن فخر الشاعر في الحديث عن حضارة أجداده في القصيدة؛ ليس إلا تذكير لأحفاد سبأ بشموخ أجدادهم عبر آلالف السنين، وإشارة للحال الذي هم اليوم فيه؛ كي ينتفضوا على الانحطاط، وينهضوا من السقوط، لقضوا باتحادهم على التشظي، الذي يقودنا إلى مزيد من الضياع…، ويتجهوا بالحب، والعلم والإيمان والعمل، إلى الشموخ، الذي حققه أجدادهم…، الذي مازال راسخاً كالجبال، ماثلاً للعيان، لا يأخذه الغياب، ولا يمسه الغروب، ولا يأتيه السقوط من بين يديه أو من خلفه…. وهذا الشموخ هو مأرب.

ومن خلال هذه المحاولة البسيطة- التي لم تكتمل بعد- يتجلى تألق السعيدي بأسلوبه المتميز(السهل الممتنع)؛ كون وضوح الألفاظ، والإجادة في اختيارها، والتمكن في تطويرها لخدمة النص؛ ينم عن ما يمتلكه من معرفة واسعة….، وقدرة عالية….، وذوق رفيع…
كما أن ظاهرة التكرار، التي تمكن السعيدي من توظيفها لخدمة القصيدة؛ تفصح عن صدق مشاعره الملتهبة بحب الوطن…، ومدى اعتزازه باجداده وأمجادهم…. وإن شاءالله سنعمل على إكمال هذه المحاولة في أقرب فرصة.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

عامر السعيدي

أغنية راعي الريح

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى