كتّاب

حديث إلى الحرب الأم


حديث إلى الحرب الأم
مروان الغفوري
—–

أيتها الحرب، يا زوجة الشيطان.
صار إليك من أصدقائي كثيرون. تفتحين بوابة العالم كل صباح تاركةً الأخبار الملعونة تسيل على جدرانك. لم تنالي من الحضارة بل من باعة الجبل المتجولين ومن العاشقات اللاتي سقط لهن قتلى. تتمشين بيننا مغرورة وعارية، فأنت من يكسب دائماً. على مذبحك الأحمر يتمدد الشجعان، فتغوص أقدامهم، ثم أجسادهم. حول ساقيك تركض الخيول الشريدة وتتلاشى. ما إن يرتفع صدرك قليلاً حتى تختفي القرى، ويتداخل دخان المُدن.

أيتها الحرب، يا زوجة الجنرالات.
كثقب أسود كبير تسحبين المُدن إليك. أنت بوابة إلى عالم آخر، يمثل الأنين أعلى أغانيه. تمتصين الهتافات النبيلة والقبيحة معاً، تبتلعين الخيول والكلاب، الجرحى والمرتزقة، وتحولين كل ذلك إلى هالة حمراء متلاشية. وعند الفجر تفتحين بوابة العالم وتتركين الخبر الملعون يسيل من بين أصابعك. تنزعين الأسماء عن الجثث، والغبار عن دم المعركة. وما إن ترفعي النيران إلى ركبتيك حتى يئن النسر في الجبل والظل في الوادي.

أيتها الحرب، كل أشيائك مرة حتى الانتصارات.
كل لذاتك قاتلة حتى الأشواق، وكل الطرق إليك سوداء وكئيبة، حتى طرق العودة. لو أنك تزوجتِ شيئاً غير الشيطان، وأنجبت آباراً بدلاً عن الخنادق. لو أنك سلكت وادياً بين جبلين بدلاً عن طريق الجبل، لو أنك تحممت بالشمس لا الريح، وسكرتِ من هواء الموانئ لا رياح المحيط، لو أنك كنتِ ابنت راعٍ لا ابنة الكاهن، لو أنك لم تعرفي لا الله ولا قمصان الموتى.. لكنتِ قد صرت زوجة لصديقي سلمان، أو حبيبة منسية لرجلٍ لا يساوي ظفركِ.

أيتها الحرب، يا كاهنة كل الأزمنة، كل الأزمنة.
في القديم كنتِ تنجبين الحمقى، وحديثاً صاروا ينجبونك. وإن تحققت أحلامنا وسقطتِ أنت جريحة فإن الحمقى سيهبون، ويعالجون جرحك، يا سيدة جراح العالمين
من أين تشترين كتبكِ؟ أي الرياح تحبين؟ أي طرق البحر هي طريقك؟ على أي قدمين تقيسين مهمازِك؟ أين تنامين، أو متى تموتين؟ ما النشيد الذي يوقظك؟ إلى جانب أي من المعسكرين تتناولين فطورَك؟ هل تنزلين على خيوط معلقة إلى السماء، أم تطلعين من الأراضي الميتة؟ عند رحيلك تزغرد امرأة وتنتحب أخرى. وفي ساعات مجدك يوزع الفقراء على الفقراء الأغطية، وينقل الفقراء من الجرحى بعض الرسائل، ويتمنى القتلى لو أنهم أسروا، والأسرى لو أنهم جرحوا، والجرحى لو ماتوا.

تعِدين الفقراء بالفردوس، الأغنياء بالمُلك، الشجعان بالمجد، العبيد بالحرية، والكهنة بالرضا. ثم تخلطين كل تلك الدماء. ربما كنتِ في البدء ريحاً سوداء خابية، أو ذئبة جريحة. ربما كنتِ شمساً صغيرة استخدمتها الجنيات لطهو الطعام في الزمن القديم. ربما كنتِ الموجة التي قتلت الدببة أو كشفت ظهور الدلافين.

أو لربما كنتِ في البدء كلمة عارية، وعندما انسكب عليك ما يكفي من الدم صرت ملحمة. بيد أنكِ لم تكوني قط إلهةٍ ولا نبية ولا شاعرة. وعندما تزاوجتِ بالشيطان لأول مرة سقطت دفعة من الطيور المهاجرة في المحيط بالقرب من أسبانيا، وماتت قافلة من الجِمَال في شمال جزيرة العرب.

أجمل ما فيك، أيتها الحرب، أنك يوماً ما لم تكون هُنا.
ولا يزال أفضل ما فيك أنك اليوم لستِ هُناك. صار لديك أبناء وبنات في هذا العالم، وهم قادرون على إنجابك من جديد. مع إنتهاء الحرب العالمية الثانية انطفأ فرجُك، لكن بناتك كن قد عرفن الطريق وحفظنَ الأناشيد.

أنت أم لكل القيعان الخالية، وللرجل الأبيض الذي يعتقد أنه أبيض لأنه كذلك. أنت زميلة لمصانع المدفعية، وحارسة مُثلى للقطارت التي تنقل الذخيرة.

في القديم كنتِ تنجبين الحمقى، وحديثاً صاروا ينجبونك. وإن تحققت أحلامنا وسقطتِ أنت جريحة فإن الحمقى سيهبون، ويعالجون جرحك، يا سيدة جراح العالمين

حديث إلى الحرب الأم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫39 تعليقات

  1. تعدين الفقراء بالفردوس، والاغنياء بالملك، والشجعان بالمجد، والعبيد بالحريه،
    روعتك لقد فاض قلمك وسرد لنا عن الحرب اللعينة الكاهنه التي لاترحم وتدمر كل جميل

  2. دفاعا عن الشيطان …
    أنت يا أجمل وأبرع ملك بين الملائكة

    يا إلهاً خانه الحظ وحُرم من المديح

    أيها الشيطان ارحم بؤسي الطويل

    يا أمير الغربة يا مظلوماً

    يا من إذا قهِر نهض دائماً أقوى وأصلب

    أنت يا من تعرف كل شيء

    يا ملكاً عظيماً للخفايا

    وشافي الإنسانية من قلقها وحيرتها

    أنت يا من تعلّم حتى للبُرص والمنبوذين الملعونين

    تذوّق طعم الفردوس عن طريق الحُب

    أنت يا مَنْ مِنَ المنيّة عشيقة العجوز القوية

    أنجبت الأمل الفاتن المجنون

    أنت يا من تمنح المحكوم بالإعدام

    النظرة الهادئة المتعالية

    التي تدين شعباً كاملاً يلتف حول مشنقته

    أنت يا من يعرف في أي ركن من الأرض المشتهاة

    يخبئ الله الغيور الأحجار الكريمة

    أنت يا من تعرف عينك المضيئة

    الخبايا العميقة

    التي ينام فيها مدفوناً عالم المعادن

    أنت يا من بيدك الكبيرة تستر الهاوية

    التي يطوف حولها السائر في نومه

    أنت يا من تعيد العظام المحطمة

    لسكّير عجوز داسته سنابك الخيل لينة

    أنت يا من علمتنا كيف نخلط ملح البارود بالكبريت

    لتدخل العزاء إلى قلب الإنسان الضعيف

    الذي يعتصره الألم

    أنت أيها الشريك البارع تضع ميسمك

    على جبهة قارون الدنيء القاسي

    أنت يا من تودع عيون وقلوب الفتيات

    عبادة الجُرح وحب الأسمال

    يا عكاز المنفيين ومصباح المخترعين

    والكاهن الذي يتلقى اعتراف المشنوقين والمتآمرين

    أيها الأب الذي تبنّى كل الذين طردهم الله الآب

    بغضبه الأسود من جنة الفردوس

    أيها الشيطان ارحم بؤسي الطويل

    المجد والمديح لك أيها الشيطان

    في أعالي السماء حيث كنت تسود

    وفي أعماق جهنم

    حيث تحلم بصمت بعد هزيمتك

    دع نفسي تسترح يوماً بقربك

    تحت شجرة المعرفة

    في الساعة التي تنتشر فيها أغصانها

    كأنها هيكل جديد … قصيدة صلوات للشيطان لشارل بودلير

  3. في القديم كنت تنجبين الحمقى
    وحديثا صارو ينجبونك

    يالها من تنبؤات موحشه
    فما أكثر الحمقى
    لأول مرة اخاف من قراءة نص
    بل واخاف من القادم
    نص مبكي ومفزع انصفت الحرب بوحشيتها
    والتهامها للمدن والناس والكلاب والخيول
    للشهداء والمرتزقة للجمال والخضار
    عشت وسط الحرب والله ما خوفتني
    كما فعلت انت
    في لحظة راودني شعور بانك كاهن للحرب
    أو أحد أنصارها لا موصف فقط
    امرك لله حتى قطر الحديد لن ينفع

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى