كتّاب

جريدة الوطن – Newspaper Al Watan – مروان الغفوري..اليمن.. نصف القرن من الحرب والحوار


نصف القرن من الحرب والحوار.

مروان الغفوري

ـــــــــ

منذ دخل الحوثيون محافظة عمران، منتصف العام الماضي، كان واضحاً أنهم دحرجوا حجرة كبيرة ومشتعلة. بعد سقوط عمران زارها هادي، وكانت أول زيارة رسمية له كرئيس للجمهورية إليها. من هناك هز رأسه بثقة قائلاً أمام العدسات: لقد عادت عمران إلى حضن الدولة. كان هادي يريد أن يغيض خصماً له من تلك المحافظة، وهو رجل أعمال وسياسي في مطلع الأربعينات من العمر. ذلك كل ما جال في بال الرئيس وهو يرى بوابة صنعاء الشمالية، عمران، تتهاوى تحت أقدام جماعة تخوض “حرب بروكسي” في جنوب الجزيرة العربية. ولم يمر سوى شهرين حتى كانت صنعاء كلياً في قبضة الميليشيات الحوثية والوحدات العسكرية المساندة لصالح. بينما كانت تلك التشكيلات المسلحة الهجينة تقتحم العاصمة كان هادي يرفض الرد على تلفون وزير داخليته، بحسب رواية الأخير، وكانت أعلى هيئة عسكرية برئاسة وزير دفاع هادي تصدر بياناً صارماً يطالب الجيش بأن يلزم ثكناته وأن لا يتدخل فيما يجري في العاصمة.
سكنت الأمور قليلاً، أو استكانت، وتدفق الحوثيون إلى كل شوارع العاصمة كلها ونصبوا النقاط والشعارات، ثم ذهبوا إلى هادي وتحاوروا معه. خرج الأخير، وقد استراح للغزاة ظناً منه أن بمقدوره أن يكون رئيساً للفاتحين، وقال في واحد من أكثر خطاباته بؤساً: إن صنعاء لم تسقط، ولن تسقط. لكن الحوثيين رأوا، بعد زمن قصير، أنه من الأفضل أن يضعوا الرجل وعشيرته تحت الإقامة الجبرية، ويمنعوا عنه الزيارات السياسية وكذلك طباخه الخاص. كانت هذه الصورة هي النهاية الدرامية الأبرز لآخر سلسلة ممتدة من الحوارات الوطنية، تلك التي استغرقت حوالي أربع سنوات برعاية جهات دولية كثيرة تأتي الأمم المتحدة على رأسها.

مع نهاية عقد السبعينات وصل صالح إلى السلطة، وعندما نظر إلى الخلف منه رأى نهراً طويلاً من الدم ينتهي بالعام ١٩٦٢، وكانت الحوارات تسيل على جانبيه وترافقه وترعاه. ونظر إلى الأمام فلم ير سوى ظل طويل لتلك الدماء، مرعي بالحوارات أيضاً. في خطاباته المبكرة دعا إلى الحوار الوطني، واستشهد كثيراً بالآيات القرآنية التي تدعو إلى الوحدة والعمل المشترك. استمرت عملية الحوار الوطني ثلث قرن من الزمن، كان صالح يفتتحها ويختمها محولاً إياها إلى “عملية حوار”، أي متتالية عملياتية تنتج ذاتها ولا تخلق نتائجَ عملية، كما ليس بمقدورها أن تغير من خرائطه الخاصة: تلك الخرائط التي تؤسس لمُلك دائم ينتقل في السلالة.
في ٢٨ أكتوبر ٢٠١٠، أي قبل اشتعال ثورة فبراير بحوالي مائة يوم، مزق صالح الوثيقة النهائية التي لخصت حواراً سياسياً امتد لشهور، وكان يمثله فيه نائبه هادي وعقله السياسي الإرياني. انهى صالح آخر موجات الحوار الوطني، كعادته، ثم دعا لجولة أخرى.
كان الحوار الوطني، في زمن صالح، هو الخيط الرئيسي للحكاية اليمنية، لكن الفوضى والعنف والحروب لم تتوقف قط على جانبي ذلك الخيط. وأحياناً كان الحوار يزاح إلى الأطراف ويحضر خيط الدم إلى المركز. ظل الحوار والدم يتناوبان بين الطرف والمركز محدثين تنويعات جنائزية في التاريخ اليمني المعاصر، إلى أن انتهت تلك السيرة الحالة بمشهد انهيار اليمني كلياً، الدولة والمجتمع.
يتشاءم اليمنيون من شهور الخريف ودعوات الحوار الوطني. فبعد حوار صعب مع شركائه الجنوبيين، بين العامين ٩٣ و ٩٤، برعاية دولية/ عربية، ذلك الحوار الذي أفضى إلى واحدة من أشهر وثائق السياسة اليمنية “وثيقة العهد والاتفاق”، ألقى صالح خطاباً من ميدان السبعين استهله ب”كتب عليكم القتال وهو كره لكم”. افتتح ذلك الخطاب حرباً أهلية شديدة الانحطاط في صيف ٩٤م. كسب صالح الحرب وراح يذكر، دائماً، بالخسارة الاقتصادية التي نتجت عن تلك الحرب. في خطاباته اللامعدودة كان يقول إن الحرب استهلكت ١٢ مليار دولار. كان ذلك هو الجانب الأسود الوحيد للحرب، كما يفهمه صالح. فعندما التقيت أحد رجاله العسكريين في القاهرة، أثناء حرب صعدة السادسة، سألته: هذه الخسارات الفادحة التي تحدث كيف ستفعلون حيالها؟ لكن الرجل تبسم، وقال واثقاً: لا توجد خسارات، حتى الرصاصة الواحدة نحصل على قيمتها، وهناك من يدفع خساراتنا. كانت سيدة عجوز، قريبة له، تجلس إلى القرب منا وتدخلت متسائلة “والأرواح يا إبني؟” ولم يرد عليها الإبن.
لكن المرة الأخيرة التي مزق فيها صالح وثيقة حوار وطني عقبتها ثورة فبراير. صار صالح عارياً، وكانت نهايته مدوية. انتهى كملك، بالفعل، وصار زعيم عصابة يحدث الكثير من الخراب، وليس ذلك بالظاهرة التي يصعب فهمها. رغم ذلك بقي قادراً على المناورة والدعوة لمشاريع حوار جديدة. ومن الأسفل كان يمكن رؤيته عارياً، ومخادعاً، بلا درجة من المصداقية.
لم يكد يمض وقت قصير حتى آلت الثورة إلى حوار، وانتهى الحوار بوثيقة على هيئة مبادرة خليجية سرعان ما انقلب عليها صالح. عاد اليمنيون مرة أخرى ،ضمن محاولاتهم المستمرة لاستخلاص دولة صالحة للعيش، ودخلوا في عملية جديدة للحوار استمرت زهاء عام كامل برعاية أممية، منجزين مسودة وطنية من حوالي ١٨٠٠ مادة ومقترح. ما إن وقع المتحاورون على الوثيقة الأخيرة، أمام تصفيق حار من الأصدقاء، حتى قام صالح بعمليته الأخيرة: اقتحام صنعاء عبر تشكيلات الحرس الجمهوري المساندة له، وتحت غلاف صلب من الحوثيين. عملية الاقتحام تلك، ولم تحدث فجأة فقد مهد لها رجال ثلاثة عبر تعبيد كل الطرقات، جرت إلى الحرب الأكثر ضراوة وفتكاً في تاريخ اليمنيين. أما الرجال الثلاثة فكان الرئيس هادي أحدهم. وهو الرجل الذي حاز ثقة اليمنيين في عملية انتخابية كانت شبيهة بحفلة طرد زار، بدت فيها عيون اليمنيين وكأنها تتوسل أملاً أخيراً سرعان ما سمحت له أيادي الرئيس الجديد بالتبدد.

لم تكن اليمن فقط الدولة التي استخدمت فيها كلمة الحوار على نحو تاريخي، بل الدولة التي دارت فيها طاولات الحوار بالفعل لما يقرب من نصف قرن من الآن. عملياً، وتاريخياً، تكون المراحل التالية للحوار اليمني هي الأكثر ضراوة، وبؤساً.

م. غ.

جريدة الوطن – Newspaper Al Watan – مروان الغفوري..اليمن.. نصف القرن من الحرب والحوار

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫43 تعليقات

  1. د. مروان الحمد لله ع سلامتك .
    حاولت الا أعلق أو أدخل صفحتك طيلة مدة الترهات اللي رغيت بها حبا فيك وعدم رضى بما صدر منك من ما كان .. وقد انتهى ..

    أرجوك اجعلنا ممن يفتخرون بمتابعتك ويستفيدون منك ولا تجعل للسفهاء سبيلا اليك .. ف غلطة الشاطر بالف . وليس العيب بأن نخطى وانما ان نستمر فيه أو نكرره ..

    حفظك ربي ووفقك . رسالة من انسان ادمن منشوراتك وايداعاتك .

    فاللابداع عنوان .. اسمه مروان .. مودتي لك

  2. أخي مروان كم أشفق عليك… اتعلم لماذا؟
    لأن ربنا ابتلاك بمتابعين يحبوا العصيد والرفيس، ويشترطون ماذا يريدون ان تكتب، وكأن ماتكتبه هو مايدور في عقولهم وصدورهم ليس مايدور في عقلك وصدرك.

    المعلقين الأعزاء، الدكتور مروان ترك الخوض في الزوبعه التي حصلت قبل يومين ليس لعجزه ولكن لعدم إضاعة المهم والطارئ في موجات سيكون لها وقتها وزمانها.

    فارجوكم الرجل أغلق الباب الآن لا تدفعوه دفعا لفتحه.

  3. كان الطيز علي عبدالله صالح بالأمس يطمح للعودة الى الحكم… لكنه وبعد أن تأكد من استحالة عودته، عمل على نشر الروائح القاتلة للوطن ارضا وانسانا.. انه الطيز الحقير

  4. ماذا تريدون بالضبط ايها المتابعون الاعزاء
    هل تودون ان يستشيركم الكاتب قبل ان يكتب مقالاته
    اترفعوا عن التفكير الضيق
    اذا لم يكن المنشور في صالحي فسوف اطلق العنان للالفاظ القبيحة والردود النارية ، واذا كان في صفي ومتفق مع رايي فهنا ، استمر يا دكتور ،،،؟؟؟
    تحياتي لك يا
    ميم غين

  5. أرجو ان تشبعنا بمقالات عن سقوط صنعا بعد عام لابد تكون تجمعت لديك معلومات كثيرة
    بالاخير انت كاتب مفكر تقود الجمهور وليس الجمهور يقودك ولا تكابر او تعاند فالحق احق ان يتبع واختار منهجك وسر عليه ولك الف شكر ان قبلتني صديق

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى