مجتمع الميم

تاكسي – السفر عبر الجندر (مدخل) – ترانسات Transat


مركبات [عبر] جندرية

 

 

في أحد الإعلانات بالسبعينات، دار حديث بين المركبة المعدنية فولفو ونادية الجندي. افتتحـ/ـت الفولفو الحوار مُرحّباً/ـةً بنجمة الجماهير:

اتفضلي! قلبي اِنفتحلك والبيبان.

وبسرعتي رح أوصّلك أبعد مكان.

 

أجابت نادية سائلةً إيّاه/ـا في صيغة المذكر:

طب إنتَ مين؟ إنتَ اسمَك إيه؟

طب إنتَ مين؟ إنتَ اسمَك إيه؟

 

فأجابـ/ـت الفولفو بصوت خشن:

سيارة فولفو! شهرتي زيّ الجنيه!

 

ركبت الجندي العربة وأكملت الحديث مخاطبة الفولفو في صيغة المؤنث:

أيوه صحيح! مشيِك مريح!

أيوه صحيح! مشيِك مريح!

 

ثم عادت لاستعمال المذكر في الإبّان:

والفولفو ده أنا من زمان بأبحث عليه!

 

تقوم نادية بعدها بالركض على الاسفلت مسابقة الفولفو:

وسّع للفولفو أوام وسّع… الفولفو

خليني أتفسح وأتمتع… الفولفو

ده مافيش أأمن ولافيش أسرع… مالفولفو

 

فيجيبها الكورال مؤنثاً الفولفو:

مريحة في كلّ شيء، مريحة في الثمن، وصديقة في الطريق وبتسبق الزمن.

 

 

أربكـ/ت الفولفو الأندروجين اللسان العربي المبين. فإذ بالفولفو المبادر ذكرٌ يغمر الأنثى العصرية بكياسته. ثمّ الفولفو، مركوب، يصير مركبة مُسيّرةٌ مطواعة. ثمّ ترجّلت السائقة عن الفولفو فعاد مذكّراً آمناً لصلابة معدنه، من ثمّ عاد عربةً مريحة الركب.

 

فليتبوأ كلٌّ مقعده من الجندر

 

انطلقـ/ـت التاكسي منذ دقائق …

 

من مقعدها بالخلف، تمرّر أمّي قبضتها لتدركني من خلف. تُربِّتُ على كتفي بلطف فأبسطُ كفّي. بحذر فائق، تدسّ براحتي أجرة السائق ولا يُسمع للدنانير رنين. انفردت أمّي بإعالتي أنا وإخوتي الثلاث، لكنّها دائما ما كانت تحجب عن نفسها صفة المُعيل وتمرّر شرفها لأبنائها الذكور. ترى أمّي في مجاهرتها بالإنفاق إحراجاً لأبائها الذكور وإذلالاً لهم. فالإنفاق من تمام قواميّة الرجال على النساء ومن مبررات استحواذهم للريادة.

 

سائقو التكاسي ذكور والمقعد الأمامي محظور على من هُنّ ومن هُمُنّ دون ذلك. تنتظم المقاعد ومواقع الركّاب داخل العربة وفق نظام جندري يُهندسنا ويُقولبنا. أذكر بوادئ الطفولة حين كنت أجاور أمّي بالخطوط الخلفية. أما وقد انتصفت التسعينات، فإذا بالزمن يجتثّني من حقل الأندروجين، تغرسني أمّي بجوار السائق المتين، تعبر بي من مناطق الجندر الرمادي لتُلحقني بركب الذكران.

 

يقول بيار بورديو في كتابه الهيمنة الذكورية، إن “تقسيم الأشياء والنشاطات (الجنسية أو غيرها)، بحسب التعارض بين المُذكر والمُؤنث، باعتباره تقسيمًا اعتباطيًا في حال كان معزولا، يتلقّى ضرورته الموضوعية والذاتية من خلال إدراجه في نسق تعارضات متجانسة، أعلى/ أسفل، فوق/ تحت، أمام/ وراء، يمين/ شمال، مستقيم/ مقوّس (ومخادع)، جاف/ رطب، رخو/ جاف، مبهر/ باهت، مضيء/ معتم، خارج (عمومي)/ داخل (خصوصي)، إلخ، الذي يتوافق بعضها مع حركات الجسد (أعلى/ أسفل/ صعود/ نزول/ خارج/ داخل/ خروج/ دخول).”

 

يقادون إلى الجندر بالسلاسل

 

أقبع بقعر غرفتي التي تقبع بقعر المنزل. معتكفة، متصوفة، في حالٍ من اليقظة الفاترة. أتكاسل عن الحياة، عن النشاط، خافتة التركيز، شديدة العزوف والتخامل، في انفصال جزئي عن الواقع. يتبادر إلى مسامعي حديث يتأتّى من بهو المنزل. حديث خافت يدور بين أمي وأخي الأكبر. كان بُنياني الجسدي وتعبيري الجسماني موضوع الحوار. كان يشرح كيف نعومتي وقوامي الرقيق لا يفرضان لي احتراماً وسط الذكور، ومن هناك خلُص إلى حلّ فعّال: الانخراط في رياضة كمال الأجسام لتصنيع بعض الفحولة العضيلة.

 

كان طريقي إلى الجيم مرفقاً بأعنف نوبات الهلع. أتفحّص المكان والذكران فور ولوجي إلى القاعة. أتحسّس الآلات والأدوات والأصوات، أرصد الأعين والنظرات. أترقّب التعليقات، أتفحّصني باستمرار، ألجّم حركاتي الخنثوية وأراقبها في استنفار.

 

أسفار خنيثة

 

أستفيق جزئيا ولا يزال يداعبني الخمول برفق، بعشق. يراودني النعاس ويغريني لأعود وأغفو من جديد، إنّه العيد. “الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد…” ما فتئ يهمس ذلك النغم من بعيد، حتى أضحى يقترب ويتضح أكثر فأكثر. فمع انقشاع المنام وأضغاث الأحلام. مع الاقتراب، أخذت الأنغام في الانتصاب. شرعت الأنغام في الإقلاع بحشرجات الحناجر الممحونة، المشبعة والمشحونة بالفحولة والخشونة.

 

ذلك النغم البعيد والمعتاد، يُدركني هذا العيد وأنا في رقاد. كم أرغب في تلافي تلك الألحان الركيكة والمعتادة، في إخماد الترانيم المبتذلة والمُعادة، والانخماد في غياهب الوسادة. كم أرغب هذا العيد، في التشفي في ما سبق من أعياد، كانتقامي من جرس الساعة السابعة أيام الأحاد. لكن لا يسعني هذا العيد الانتشاء بغيابي عن العيد. فالعيد عاد كالمعتاد، ليذكرني (الذاكرة) بأن أتذكّر (الذكورة). ربما سميّ العيد عيداً لأنه يُعاد. أما التذكير فهو إعادة واعتياد. هو سفر ونحت في في الجندر والذاكرة.

 

في ركن ركين بثنايا الذاكرة والجندر، يقبع مشهد لعين دفين. يطفو حينا فيلوح. أراني أجلس في قاعة المعيش ببيتنا الأسري بأريانة، بعض التفاصيل على قدر من الوضوح، كتوزيع الأفرشة بالصالون. الأوجه ضبابية، وبعض الأشكال شديدة الهُلامية. الألوان خافتة تميل إلى الرمادية والإضاءة تسبح في محيط من القتامة. أراني أجلس رفقة اثنتين أو ثلاث “نسوان”، ربما كنا نتسامر. وبينما نحن جلوس إذ يطأ أخي مجال الذاكرة مقتحما الكَدْر والجندر، فيعصف بلطافة المشهد وينهرني: “حلّ ربّ ساقيك” (فرّج عن ربّ ساقيك). أكاد أحس بنفس الهلع مع استعادتي لهذه الذكريات.

 

صدح أخي بصوت جهوري أجش، يزيد فحولة عن المعتاد. منكمش القسمات. منتصب الطول. صاغر[ة] أنا، في وضع الجلوس وقد تكلّس حوضي وركبتاي، كاحليّ وقدماي. يتوقف الزمن لبرهة وأتصلّب، وكأني بالساعة تحين. كل تلك التمارين لم تجد نفعا، فها قد نسيت مجددا بأن أتذكّر (الذكورة).

 

الهاربة من المعبر

 

أستفيق لأستبق الأدعية والأذكار، التكبيرات، الابتهالات، وأهرع للاغتسال. فقد استمنيت البارحة أيضا. بيت الاستحمام، جدرانه الداكنة وإضاءة الصبح الناعمة. أقف تحت الدوش. أشرد لحينٍ، أتابع المياه تنساب وتلهو على سيقاني الممشوقة. أمرر كفّي ليلامس الذكر، فيذكرني (الذاكرة) ذلك الندب بأن أتذكّر (الذكورة). أثر الختان، قلفتي المبتورة، الإثم. الطهارة، الطهور. أُسدل رايتي البيضاء على جسمي الآثم. أرتدي ثوبا خليجيا ناصع البياض اجتلبه لي أخي من مكّة. ألهو قليلا بثوبي المسدل في حركات أنثوية، خنثوية، ثم أتذكّر (ذكورة).

 

أقصد الجامع. أتربع وسط الذكران. تتصاعد الحشرجات، تتشابك: “الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله, الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد…”. لا أُصدر صوتا، فقط أكتفي بتحريك شفتاي.

 



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى