كتّاب

امين تاكي | الرحلة الى اوروبا . الجزء

امين تاكي:

الرحلة الى اوروبا

. الجزء التاسع عشر

الرحلة ما قبل الأخيرة ، او ربما تكون هكذا

فلنجرب حظنا مع الله
ولنأمل خيراً

ينقسم البشر إلى نوعين : اولئك اللذين ينعمون بالحماقة ولايشعرون ، والآخرون. أنا اعد نفسي من الآخرين

آخر ماتوصلت إليه افكاري ، ان حياة الإنتظار عبارة عن تدمير خيالي للأعصاب .! على ماذا نُركِز إذن؟ على تدمير الاعصاب؟ ام على الجانب الخيالي؟

يميل اصحاب الحماقة إلى فرضية تدمير الأعصاب ، فهذا يُطمئنهم مثل النشرات الاخبارية. اما الآخرون فترونهم كيف يشُقون غمار الحياة في كل مرة ، يَعبرون الليل بكل تلهُف واعصاب ، بشعور مركز بالإغتراب

ينظرون الى الطموح في الخيال. وهكذا يجربون حظوظهم في كل مرة وبلا هوادة ، كالمدمنين على المخدرات. والعالم يفضي بهم الى المواقف المحفوفة بالفواصل الموسيقية واقواس القُزح المنقوشة بالمغامرة والقلق والفظاعة

وفجأة يمضي العمر ، ونبلغ سن النُضج ومازلنا نعيش الطموح في الخيال فقط. النُضج. يالهذه الكلمة القبيحة ، القذرة. نُدرك في جوهر النضج ، حقيقة الطموح الخيالي البعيد عن مقبرة المراهقة المزركشة بالذهب ، فالخيال في سن الرشد هو المغامرة والقلق والفظاعة

تعالوا ايها الفلاسفة وواجهوني ، ستعودون بكلامي الى فروج امهاتكم مثل المتسول عزيز النفس في عصر يوم الجمعة. لأنني اقول الحقيقة ، اقول الجوهري ، مهما كان فاحشاً ومخجلاً ، ويُتعب ارواحكم

ضاعت ستة أشهر من حياتي في المواظبة المستمرة على ذاك الطقس البارد من التفاهة في الجزائر ، فضعفّت حواسي ونحَلّ جسدي ، وخسرت اكثر من ثمانية كيلو ، وانزلقتُ في حفرة من الإحباط. حتى أن تعاسة العالم ظلّت واقفة على قدميها ولم تجد لها مكاناً في حياتي تجلس إليه

يحدث غالباً امراً متعلقاً بالغباء ، ان تتخذ قرارات ساذجة ومخيبة للآمال. لتجِد نفسك غارقاً في بحر الوهّن والضياع وتشتُت الأفكار. لكنني قررتُ إجتياز ذلك أخيراً. فكان المُهرِب بإنتظاري ، فغادرت

كان قرار الرحلة بالنسبة لي كالمسيح المُخَلِص. واصبح تبادل الثقة بيني وبين نجاح الرحلة متيناً ، بفضل ثقتي بأنني سأستعيد خطتي المرسومة مسبقاً ، بمجرد ان اغادر تلك الغرفة الخرائية في وهران

الساعة الرابعة فجراً ، انظر الى نفسي في المِرآة ، ونتعانق مثل العائدين من الحرب بعد إنقطاع طويل. وبكينا في الوقت ذاته. فالآلام تتفاهم وتواسي بعضها

تبادلنا المحبة ببرآءة المراهقين ، يا لهذه المفاجأة السحرية.! اين كنتُ غائباً؟ فإذا بي مصعوق من اطنان من الضياع بسبب إتباعي لخطط اشخاص آخرين.! اين كنت تختبىء يا أنا طيلة هذه الأشهُر الرتيبة؟ فليذهب الأصدقاء الى الجحيم

لو كُتِبَ عليّ شراء هذا القدر من الإستِفاقة ، لأثقَلت كاهلي الديون حتى يُطلِق الدائنون عليّ النار

ترجلتُ عن إنتظار القرارات التي يحددها سماسرة التهريب ، وقمت بصناعة قراراتي المفضلة ، ووجدتُ نفسي احصد مايشبه الصداقة مع نفسي من جديد ، أين كنتَ طيلة هذا الوقت؟ هذا السؤال الذي كان يدور في أعاصير رأسي؟ كم عانيتُ في غيابك ، لكنك بطبيعة الحال قد عُدت

انظر الى نفسي في المِرآة للمرة الأخيرة ، إنني اكثر وسامةً وبراعة ، رجل كباقي الرجال اللذين يفهمون أنفسهم. فهذا النوع من الصداقة يقشع غمامة الحماقة على إرتكاب التفاهات. ويكفيك للمضي قُدماً لأجلٍ معقول

فتحتُ باب غرفتي وخرجتُ منها ، وانا ابصق بصقةً ثقيلة على عتبتها. لم انظر الى شيء من السطح ، عيناي تستعصيان على الهدنة ، فجمال المظاهر لم يعد يعنيني ، المظاهر آيلة الى السقوط دوماً

غادرتُ في الساعة الرابعة والنصف فجراً من وهران ، دون ان اقول شيئاً ، دون أن أُلقي نظرة على البحر والنوارس والقلعة والقمر من على سطح المنزل الذي عشتُ فيه شهرين من الصبر. إفتعلتُ حالةً من السكوت الجنائزي ونزلتُ عبر السُلّم من الطابق السابع

غادرتُ إذن ، لكن دون ان انظر الى المدينة ، و دون أن اودع جارتي وفتياتها المراهقات ، لم اودع صديقي الخمسيني صاحب مطعم الوجبات السريعة الذي أحبني ورءآني كأخاه. كنا نتحدث لساعات ، قلت له ان لدي وصفة صوص خاصة للشيش طاوق ، واعطيت له مكوناتها كهدية متواضعة ، وقد اعجبته

لم اودع احد ، لا احد. غادرتُ دون ان استنشق شيئاً ، لأنني قد أسترجع رائحة الحنين النتنة الثاقبة. ماهو إلا جهداً صغير ، و اكون خارج هذا البلد الجميل والمُميت في آن

في الساعة الخامسة والنصف فجراً ، مضيتُ في التاكس الذي ينقلني من مدينة وهران الى مدينة تلمسان ، ركِب بجواري رجل جزائري بحدود العقد الرابع من العمر ، ظل يتحدث بالسياسة لمدة ساعتين.! وكان ذلك هو الوقت الذي قضيته في الرحلة

ألا ترون ذاك السياسي الثمانيني المخبول"بوتفليقة" كيف يسيل لعابه لهفة الى المنصب؟ إنه أحمق ، وربما يقود بلادة الى هاوية سحيقة بسبب المظاهرات. لماذا لاتتعلم العرب من كوارث بعضها؟

في السابعة صباحاً بالتمام ، وصلتُ الى محطة تلمسان. إتصلتُ بالمُهرب ، لكن هاتفه كان مغلقاً. فخرجتُ بثيابي السوداء أرتدي الصبر ، في ساحة المحطة ، غير آبهٍ برجال الشرطة المتجولين فيها

ثم يهاتفني المهرب أخيراً في الساعة التاسعة والنصف ، ويطلب مني الذهاب الى منطقة سبدو.! أيها القذر : اقول من شدة الغضب. ثم اغادر المحطة بإتجاه سبدو ، ثم الى منطقة قرب الحدود المغربية

اخذني المهرب الى منزل ريفي جدرانة أشبه بالخرقة البالية ، ترى من خلالة الحصان والماشية في الحضيرة المجاورة. مكثتُ فيه وحيداً نهاراً كاملاً استحِم في حمامٍ من الصقيع ، ثم احضر المهرب شاباً سوري في المساء لنتشارك الحمام الثلجي نفسه

تدفع الفطرة الإنسان الى القيام بأشياء خطيرة ، التهريب. غادرنا الحدود الجزائرية مساء اليوم الثاني. وبعد عاصفة من المطر الغزير ، اضحت الارض مسرحاً للتزلج

لكن حذائَيَّ يُخالفا المنطق في كيفية إستخدامهما ، فقد جمعا مايقرب ثلاثة كيلو من الطين على كل واحد منهما. فتنبؤوا كيف كانت حركتي في الظلام بين الطين آنذاك. اصبَحَت رجلَيَّ تنزلقا كالأسماك الرشيقة النهرية

اتوقف لإزالة الطين ، فيدُسُ المهرب يده في مؤخرتي ، ويأمرني بعدم التوقف ، أيها الشاذ المنيوك : اقول. فتبوء محاولتي في تخفيف وزن حذائي بالفشل. يلُفُني التعب كما يُلَّفُ المنديل بالشطيرة ، لكنني امشي نحو الحدود

إجتزنا الحدود بعد خمسة واربعون دقيقة ، لتلتقفنا سيارة مرسيدس. وحينها يحدث المشهد المريع الذي لن يصدقه احد ، لكنها الحقيقة الخرائية المقدسة

يتأهب المهرب لحشر عشرة اشخاص في السيارة.! تهيمن الدهشة علينا ، وصراخ يشبه العواءٌ العتيق من قِبّل المهربين ، يليق بالمستذئبين. وضعوني بجانب شخصين في حقيبة السيارة الخلفية ، واقفلوا الباب علينا بعنف ، إنهرسّ رأسي مثل البطاطة ، ومضت السيارة بتهذيب يشهد عبور جنازة جماعية

اقسم لكم ان هذا ماحدث. ساعة كاملة لا استطيع التنفس ، وبعدها نقلونا الى سيارة كبيرة. فتتراءى لي الحياة من بعد الموت

ثم وصلنا الى مدينة الناظور بعد ساعتين من السفر ، عثرتُ على الـ///ــلام النفسي الآن. ليس صحيحاً ان تجاوز كل مرحلة من الرحلة لايثلج الصدر. فها انا ذا مرتاح البال مسروراً بما فعلت

الراحة مابعد التعب ، شعور لايوصَف ، ولايخطر على بال الكسالى ، ولن يفهموه ابداً

تركتُ الجزائر بكل اللباقة التي تبدوا على وجوه العاهرات حين يتزوجن الملياردير اخيراً. ثم وصلتُ الى المغرب ، لترتسم على وجهي إبتسامة تصالُح مع العالم ، ومع كل ماعِشتُه سابقاً

والآن ، اتقدم الى المرحلة الأخيرة من الرحلة الى اوروبا ، فانتظروا كي اعرفكم على ماسيحدث


امين تاكي | ناشط حقوقي

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى