الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ١٤…

الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ١٤

لم يكن صديقى إديك (Edik) طالباً عادياً – كنا نادراً ما نراه يذاكر، لكنه كان يعرف كل شيئ ويحصل على إمتياز أو جيد جداً فى كل إمتحان. كثيرون يستطيعون إجتياز الإمتحانات، و لكن إديك كان من القلة النادرة الذين يتفهمون جوهر المادة و أسسها الفيزيقية، و ليس مجرد المعادلات و القوانين الكافية للنجاح فى الإمتحان.

كان إديك أيضاً متعدد المواهب، فهو كان رساماً موهوباً، ولاعب جيتار من الدرجة الأولى، (أسس بعد التخرج فرقة موسيقية محترفة،) و كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة غير معتادة بين الروس فى ذلك الزمان. وكان يبدو و كأنه يعرف كل مبنى فى ليننجراد، و كل لوحة فى الإرميتاج، و كل أنواع النباتات والأشجار و فطر عش الغراب على نحو كان يدهش الجميع.

كان إديك يسبقنى فى الدراسة بسنة، لكننا كنا نسكن فى غرفتين متجاورتين فى بيت الطلبة، و تكونت بينى وبينه صداقة وثيقة. كنا فى الصيف نأخذ القطار الكهربائي (الذى كان يسمى إلكتريتشكا ‘electrichka’) إلى خارج المدينة لنستكشف الغابات والبحيرات المحيطة بليننجراد، و كان إديك يعرفها كلها … كيف؟ … لا أعرف! أحيانا كنا نتجول فى غابات كثيفة لا نرى أي شيئ إلا أشجاراً وراء أشجار، و كان إديك يقول: … محطة الإلكتريتشكا فى ذلك الإتجاه. و نمشى فى ذلك الإتجاه وإذا بالمحطة هناك بالفعل.

كان اديك من سيبيريا، و لا يبدو أنه كان من أسرة ميسورة الحال، فلم تكن تصله أية “طرود” مثل تلك التى كان يتلقاها زملاؤنا الآخرون من الأقاليم. كان من عادة الطلبة القادمين من الأقاليم أن يحاولوا العثور على وظيفة فى ليننجراد، لأنها مدينة جميلة و مرغوبة. و كان ذلك فى متناول إديك بلا شك نظراً لمواهبه الفذة. لكنه لم يفكر فى ذلك بتاتاً، بل كان الرجوع إلى سيبيريا عنده أمراً مفروغاً منه.

إشتغل إديك بعد التخرج فى مركز أبحاث سري فى غرب سيبيريا، لا أعرف فى ماذا. و إنقطعت الصلة بيننا بطبيعة الأمور.

مرت السنون و تفككت السلطة السوڤيتتية، و وجد العاملون فى ذلك المركز أنفسهم بدون مدير. المدير العام كانت تعينه موسكو، و موسكو لم تعد فيها سلطة أو حكومة. قرر العاملون إختيار مديرهم العام بالتصويت، ولما ظهرت النتيجة كان إديك هو الفائز على الرغم من أنه لم يرشح نفسه. إستمر إديك فى ذلك المنصب حتى بلغ سن المعاش. و إستبقاه المدير العام الجديد بعد ذلك كمستشار له.

سمعت عن ذلك عندما زرت سان بيتربورج بعد حوالي ٤٠ سنة من التخرج، و إلتقيت بزملاء قدامى من أيام الدراسة. وصلت الأخبار إلى إديك فجاء على الفور إلى سان پيتربورج، (و هي على بعد ٦ ساعات بالطائرة من مدينته فى غرب سيبيريا،) و كان لقاءاً دافئاً جميلاً. إقترح إديك أن نقضى أجازة عائلية مع زوجاتنا فى مصحة على شاطئ خليج فنلندا فى الصيف التالي. و حدث . جاء زملاء قدامى ليزورونا. لم يعد أحد من العواجيز قادراً على شرب الڤودكا “زي زمان”، لكن الكونياك كان بديلاً لا بأس به. (لا سيما و أن الجميع كانوا فى حال أيسر كثيراً مما كنا أيام الدراسة.)

كان صديقنا المشترك ڤاليرى يمتلك داتشا فى الضواحى، فإجتمعت العائلات هناك حيث تذوقنا الخيار و الطماطم المقطوفة تواً من الحديقة. كان لكل منا أحفاد و حفيدات فتحدثنا عنهم بلا نهاية كعادة الأجداد والجدات.

لم يكن حظ إديك فى النواحى الشخصية مثل حظه فى العمل. كانت لديه إبنة وحيدة ، و حدثت له معها مشاكل مأساوية. حكت لى عنها زوجته بعيداً عن مسامعه، و عن كيف وصلت الأمور بصديقى إلى حافة الهاوية، لولا أن الأم وقفت بينهما لتحول دون وقوع أسرتها فى مأساة دوستوييڤسكية.

هذه لقطات من الحياة فى روسيا – ناس مثل كل الناس، لديهم نجاحاتهم و مسراتهم و مآسيهم. ليس من السهل فهمهم و التقارب معهم، لكن الصداقة تدوم طول العمر.

رسمت اللوحة المرفقة من صورة فوتوغرافية قديمة. كنا فى تلك الصورة نلعب أدواراً معروفة فى الفن الغربي – إديك يلعب دور النصاب، و أنا مساعده. أما الضحية فهو زميلنا و صديقنا إيڤان الذى كان من تشيكوسلوڤاكيا. توفى إديك قبل حوالي ٣ سنوات.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات