كتّاب

الحج المبرور والذنب المغفور…


الحج المبرور والذنب المغفور
“وربنا مايوريهالكوا أبدا”
كانت قافلة الحج المصرية أهم قوافل الحجاج فى عالم العصور الوسطى ومطلع العصور الحديثة، إذ كان يتجمع على أبوب القاهرة وفى ميدان القلعة وباب النصر وبركة الحاج بالقرب من المطرية، حجاج السودان ووسط إفريقية ونواكشوت والتكرور والمغاربة كلهم ليقضوا أياما يلبوا ويكبروا ويستمعوا للقرآن بالقراءات المصرية الجميلة والمميزة، وينعموا بما يتصدق به السلاطين المصريين عليهم من لحوم وفاكهة فى مطابخ تعمل طيلة النهار والليل، وكان أمير الحاج هو وأمير الحرب أهم شخصيتين بعد السلطان نفسه فكان أمير الحج هذا يسيطر على خمس الأراضى المصرية، يتسلم خراجها وغلتها لينفق على القافلة وعلى الجنود والعسكر الموكل لهم حمايتها طوال طريق الذهاب والعودة، وعلى تكايا المصريين فى الحرمين وصدقات فقراءها، وعلى كسوة الكعبة التى كانت تصنعها دارا مخصوصة بالقلعة، وعلى مرتبات وهبات لشيوخ القبائل التى تجتاز القافلة العظيمة أرضهم وهى فى طريقها للحج، وأيضا على تجديد الطريق نفسه وتعبيده وحفر آبار مياهه وإعادة حفر ما انطمر منها، وهكذا كانت قافلة الحج أهم حدث إسلامى فى البلاد،
حتى افتتح الخديو إسماعيل قناة السويس (نوفمبر 1869) وراحت العبارات الكبيرة تمخر عباب البحر الأحمر، فراح معظم الحجاج، مع قافلة المحمل الرسمية التى تحمل كسوة الكعبة، يتحولون إلى الحج عبر البواخر الكبيرة التى تبحر من السويس فتصل جدة بعد يوم وبعض يوم، فعلى الرغم من أنه حجا أغلى إلا انه أأمن وأكثر راحة ويجنب الحجاج مخاطر الطريق البرى كالعطش وجفاف الآبار وعواصف الصحراء الرملية التى قد تمزق شمل القافة كلها، أو السيول الجارة إذا كان الوقت شتاءا، كل هذا فضلا عن هجوم البدو واللصوص وقطاع الطرق، وغيرها من مفاجآت ليست فى الحسبان، ورغم هذا ظلت قافلة الحج البرية تواصل رحلتها السنوية بعد أن انكشف عنها الغطاء الرسمى للدولة
وقد حكت لى أمى –رحمها الله- أن خالها قد قرر فى أواخر عشرينيات القرن الماضى أن يحج، مصرا على أن يؤدى حجته مع قافلة الحج البرية على الرغم من أنها قد أصبحت قافلة تافهة وهزيلة وقليلة العتاد والحراسة ولا تضم سوى عدة مئات من المؤمنين، إذ أن الحج برا يتفق مع ماقيل فى المأثور: “الثواب على قدر المشقة” وهو الحج الشرعي مصداقا لقوله تعالي: “يأتوك رجالا وعلى كل ضامر” وهو من ناحية ثانية سيهئ للرجل وكان ذو نزعة صوفية عميقة، أن يتأمل ملكوت الله وخلقه ويتيح له متسعا من الوقت لذكر الله وتسبيحه بكرة وأصيلا طوال الطريق.
المهم يبدوا أن طريق الذهاب للحج كان سهلا ميسورا، فأدى الرجل شعائره ومناسكه ونحر ذبيحته كما أمر الله، ولكن فى نهاية أيام الحج أصيب الرجل ب”التيوفويد” واحتجزه الحجر الصحى أياما طويلة حتى غادر جميع الحجاج بما فيهم قافلته الصغيرة، وكان آخر ما وصل لأهله من أخباره أن القافلة تركته بالحجر الصحى فى مكة المكرمة بين الحياة والموت، وقد مات هذا العام خلق كثير، ورغم ذلك فقد تعافى الرجل وتعرف على بعض من يريدوا أن يقطعوا طريق الصحراء الطويلة نحو الشمال وكان منهم الأحباش والشوام والأجانب، ولم يكن الرجل الطيب يعلم أن الأمير عبد العزيز بن سعود أمير نجد قد قضى على الحكم الهاشمى فى الحجاز منذ قليل، فرفعت القبائل التى تدين بالولاء للهاشميين راية العصيان وأحالوا المنطقة فوضى عارمة، فقبضوا عليه واحتجزوه أياما فى كهف مظلم قبل أن يطلقوه ليسير وحيدا، ويجد نفسه بعد أيام وسط قطاع الطريق الذين يجردونه من ثيابه وحذائه وما معه من قروش قليلة، فيمضى وهو على هذه الحال ليجد من يسير معه يوما أو بعض يوم حتى يفرقهم قطاع الطريق ثانية أو عواصف الصحراء المهلكة، ومع هذا لم يمنع الأمر أن يجد من يبل ريقه ويكرم العثور عليه وحيدا من القبائل فيضيفونه ويطعمونه ويمنحوه ملابس بسيطة وزمزمية مياة ويرشدونه إلى الطريق، ومع هذا وبعد السير أياما تجبره الرمال الكثيفة المعلقة بين السماء والأرض على السير بلا هدى ليجد نفسه فى نفس المكان الذى كان فيه منذ أيام عدة حيث الصخور الحمراء القانية الدامية كالعمالقة المردة، ويضطر الرجل للنوم نهارا فى شقوق الأرض اتقاء لقيظ الصحراء القاتل والسير ليلا، ويعيش على مايصطاده من سحالى وحشرات وما يجده فى طريقه من عشب وبذور غريبة، وينظر ليجد خميلة من الشجر القليل فيقرر أن ينام فى ظلها المحدود ليستقظ على لسعات قاتلة فى كل جسدة إذ هى مجرد شجيرات من أشجار السنط القاسية تمتلئ أرضها بالشوك وبالحشرات والديدان الكريهة والعقارب، وبعد مسيرة أيام أخرى ينظر ليرى عين ماء صغيرة تخرج من الأرض وتحيلها إلى نباتات خضراء زاهية فيقرر أن ينام فى تلك الواحة الظليلة ليستيقظ على صرخات مدوية من قرود هائلة تنظر إليه بغضب مخيف فينهض ليعدو ومع هذا فهى تعدو خلفة لتوسع رجلاه وظهره عضا وخمشا، وربما خيل إليه أن وحشا مفترسا يطل عليه من فوهات الكهوف العالية فيتشهد عشرات المرات موقنا أنها النهاية، وهكذا واجه الرجل الموت فى رحلته وجها لوجه مرات كثيرة، ومرت شهور قبل أن يصل إلى السويس ويبرق إلى أسرته، التى كانت قد أيقنت بموته فى الحجاز وتلقت فيه العزاء، بأنه فى الحجر الصحى بالسويس بين الحياة والموت، ويصل إخوته لاصطحابه، من السويس إلى ساحل روض الفرج حيث عليهم أن يستقلوا المركب الشراعى التى تقلهم إلى قرية الفرعونية قبل بلدنا الباجور بنحو خمسة كيلومترات، فى حال من الهزال يصعب معه عليه حتى ركوب أحد الدواب، فيصنعون له محفه تحمله على عربه كارو، حتى يدخل بيته لا يربطه بالحياه إلا أنات خافته ونفس واهن يتردد، وتمر أيام والرجل لا يستطيع إلا أن يعيش على الماء بسكر أو العصائر حتى فتح عينيه … وعندما انتبه للناس يهنؤه بسلامة العودة وبالحج المبرور، فكان ينظر إليهم بعيون زائغة، ويحرك أصبعه قائلا بصوت خفيض وواهن .. “ربنا مايوريها لكوا أبدا”
………………
أما اليوم وقد أصبح الحج سهلا وآمنا وإن كان غاليا .. فنرجوا من الله أن يكتبها لكل من يتمناها.. وكل سنة وأنتوا بألف خير وسعادة

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى