الأغنية اليتيمة التى جمعت بيرم وعبد الوهاب:
مايو 1938، أخيرا استقر بيرم التونسي ابن الخمسة وأربعين سنة فى مصر من جديد بعد تمنتاشر سنة من النفى، سنوات طويلة مترعة بالجوع والأحزان والتشرد والحرمان وألم الفراق ومطاردة البوليس والطرد من بلد لبلد، والاضطرار للبحث عن أى عمل بأى نقود حتى لا يهلك جوعا، وبعد شهور عاشها خائفا متخفيا، توسط له كامل الشناوى ليصدر وزير الداخلية محمود فهمى النقراشى قرارا بتجاهل وجوده فى مصر، وبعد شهور التقى بيرم فنان مصر الأول محمد عبد الوهاب
ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يلتقى فيها بيرم وعبد الوهاب، فلاشك أنهما التقيا فى كواليس مسرحيات سيد درويش وورش التلحين والغناء لمسرحياته فدرويش رفيقه وبلدياته وجمعهما التمرد والثورة على كل ماهو تقليدى كل فى مجاله وقد كتب له أغنيات واحدة من أجمل مسرحياته “شهرزاد”، ومنها “انا المصرى كريم العنصرين” وهو أديب وكاتب شهير يصدر المجلات فتغلقها السلطة ويهاجم الملك فؤاد ويشبب بابنته وزوجنه الملكة نازلى، بينما كان عبد الوهاب فتى موهوبا لم يصل سنه الى العشرين يسعى للأخذ والتعلم من عبقرية سيد درويش بالغناء فى مسرحياته فغنى بدلا منه لوعكة طارئة بمصاحبة “حياة صبرى” دور “على قد الليل مايطول” فى مسرحية العشرة الطيبة فلا شك انهما التقيا ولكن لم يكن من الممكن أن يتعاونا، المهم سرعان مانجحت السلطة المصرية فى إرغام القنصل الفرنسي على نفى بيرم باعتباره “رعية فرنسية”، فخرج من مصر ليلة عيد الأضحى سنة 1920، إلى المنفى والضياع فيكتب:
يوم الدبايح كان آخر مواعيدك/وقفت لك فرحان أنصب رايات عيدك/وافرش لك الريحان واسمع زغاريدك/زعق غراب البين فصلت أكفانى
وبينما يقاسي بيرم التشرد والضياع، ويكتب: غلبت أقطع تذاكر وشبعت يارب غربه/بين الشطوط والبواخر وبين بلدنا وأوربا، فى نفس الوقت الذى تضحك الدنيا فيه لعبد الوهاب فيتعرف الى شوقى بك الذى يصحبه سنوات إلى باريس ليتعلم فى أرقى مؤسساتها ويغنى للملك فؤاد وملك الأفغان “فى الليل لما خلى” ويلقب بمطرب الملوك والأمراء وينتج الأفلام ويتمنى المطربون جميعا أن يلحن لهم عبد الوهاب، ويصبح سيد الموسيقى والغناء فى مصر بلا منازع
وبعد عودته راح بيرم يبحث عن سبل الرزق من خلال كتابة الزجل للصحف والكتابة للإذاعة، وكتابة الأغنيات للفنانين، حتى طلبه المخرج محمد كريم لكتابة واحدة من أغانى فيلم “يوم سعيد” بطولة محمد عبد الوهاب وهنا التقاه بيرم وبعد حوارات حول الفيلم ومواقفه كتب له أغنيته الرائعة “محلاها عيشة الفلاح/ مطمن قلبه ومرتاح/ يتمرغ على أرض براح/ والغيمة الزرقا ساتراه”، فيلحنها لتغنيها أسمهان فى الفيلم فقط، بينما يغنيها عبد الوهاب للإذاعة،
كانت أم كلثوم قد عرفت بيرم جيدا منذ سنوات من خلال أستاذها وصديق بيرم الحميم الشيخ ذكريا أحمد وكان بين أم كلثوم وعبد الوهاب من الغيرة والتنافس مثل ما صنع الحداد، وهنا خشيت أم كلثوم على بيرم من سحر عبد الوهاب وثرائه ونفوذه وإمكانياته الهائلة، فانتهزت “جلسة أنس” وروقان وفرفشة لتقول لبيرم: بقى هى دى عيشة الفلاح يابيرم، تتكلم عن البلهارسيا والفقر والجهل والمرض اللى عايشين الفلاحين بهم، ولما تيجى تكتب لعبد الوهاب تكتبله “محلاها عيشة الفلاح” .. فاحمر وجه بيرم الأشقر وقال لها: إحمدى ربنا إنى خليت الواد الشاذ ده بتاع الملوك والأمرا يغنى للفلاحين، وقيل أنه قال ماهو أفظع وأقبح من كلمة “الشاذ” .. وكان فى اللقاء من يعرف عبد الوهاب فينقل له نص ما قاله بيرم
استشاط عبد الوهاب غضبا، وراح بكل قوته يحارب بيرم التونسي فى مختلف المجالات وأقلها إعلانه أنه لن يلحن لمطرب أو مطربة اقترف جريمة “غناء كلمات من نظم بيرم التونسي”.. وعندما أدرك بيرم ضراوة وعنف هجوم عبد الوهاب عليه كتب قصيدته: أهل المغنى، تقول:
يا اهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقه سكوت لله
داحنا شبعنا كلام ماله معنى ياليل وياعين ويا آه
طلعت موضه غصون وبلابل شابط فيها حزين
شاكى وباكى وقال موش عارف يشكى ويبكى لمين
واللى جابت له الداء والكافيه طرشه ماهش سامعاه
يااهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقه سكوت لله
ردى عليه ياطيور بينادى وارمى له الجناجين
وانت كمان يا وابور الــــوادى قل له رايح على فين
قل له اياك يرتاح يابابـــــوره ويريحنــــــــــا معــــــاه
ياهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقه سكــــــوت لله
كل جدع فرحان بشبابه يقول فى عنيه دمـــوع
ياللى جلبتى شقاه وعذابه حلّى لنــــا الموضــــوع
طالع نازل يلقى عـــــوازل واقفــــــــه بتستنــــــاه
ياهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقه سكوت لله
حافضين عشره اتناشر كلمه نقل من الجـــــــــورنال
شوق وحنين وأمل وأمانــــــى وصد وتيـــــــه ودلال
واللى اتعـــاد ينزاد ياخــــــــــوانا وليل ونهــــــــار هـــوّاه
ياهل المغنى دماغنا وجعنـــــــــــا
دقيقه ســكوت لله
ومات بيرم بعدها بأكثر من عشرين سنة دون أن يلتقى مع عبد الوهاب فى عمل آخر
يسعد أوقاتكم
يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات
