هذا مقال كتبته فى الأهرام من حوالى عشر سنوات:…


هذا مقال كتبته فى الأهرام من حوالى عشر سنوات:

تجربتى مع هيكل

شريف الشوباشى

انتعشت ذاكرتى وأقلعت فى لمح البصر باتجاه الماضى إلى صيف عام 1984 وأنا جالس منذ أيام أقرأ أحد فصول كتاب محمد حسنين هيكل الجديد “مبارك وزمانه: من المنصة إلى الميدان”. كان الفصل يسرد تفاصيل مكالمة هاتفية عرض فيها مبارك أن يعالج هيكل بالخارج على حسابه الخاص. وربطت فى ذهنى بين رفض هيكل لهذا العرض كما يرويه فى الكتاب وتجربتى الشخصية معه فى عام 1984 عندما كنت أقيم فى باريس وأعمل بمنظمة اليونسكو الدولية حيث كنت أتولى منصب رئيس تحرير مجلة “أخبار اليونسكو” التى كانت تصدر بالفرنسية والإنجليزية.
وتذكرت اليوم الذى سألنى فيه مدير إدارة الإعلام بالمنظمة إن كنت أعرف الأستاذ هيكل لأنهم يريدون دعوته فى ندوة دولية كبيرة عن مستقبل التعليم والإعلام فى العالم وسألنى إن كان باستطاعتى أن أقنعه بالمشاركة فى لجنة الصحافة والإعلام. أجبته يومها أنى مستعد لذلك لكن بشرط أن يكون الأستاذ هيكل رئيسا لهذه اللجنة.
بعدها بأيام طلبنى مدير إدارة الإعلام على التليفون الداخلى وقال لى: الأستاذ هيكل سيكون رئيس اللجنة وهناك إجماع على ذلك وهذه اللجنة تضم بعض فطاحل الصحافة العالمية منهم رؤساء تحرير عاملين وأصحاب صحف كبيرة فى بريطانيا وغيرها من الدول الكبيرة وسوف تتكفل اليونسكو بإقامته بالكامل وبتذكرة سفر من القاهرة إلى باريس على الدرجة الأولى.
وعندما اتصلت بالأستاذ هيكل وطرحت عليه الأسماء المشاركة ومنهم بعض من يعرفهم شخصيا رحب بالفكرة على الفور لكنه قال إنه سيكون فى لندن وبالتالى فإنه ليس بحاجة إلى تذكرة طائرة. وعندما عرضت عليه أن تكون التذكرة من لندن لباريس والعكس اعترض على الفكرة ضاحكا وهو يقول: ياسيدى الموضوع ما يستاهلش.
وقبل موعد الندوة بيوم واحد ذهبت إلى مطار باريس لاستقبال الأستاذ بسيارتى المتواضعة وروى لى فى الطريق عن زيارته لانجلترا واستقبال رئيسة الوزراء آنذاك مارجريت ثاتشر له. وبدلا من الذهاب إلى الفندق المحجوز له توجهنا بناء على طلبه إلى أحد أفخم فنادق العاصمة الفرنسية وأصبت بالقلق لعملى أن اليونسكو لن يدفع حساب هذا الفندق لكنه طمأننى بأنه سوف يتكفل باقامته. وفور وصوله طلب الأستاذ استئجار سيارة بسائق لازمته طوال إقامته.
وأذكر أنه بعد انتهاء أحد الاجتماعات وجدت الأستاذ هيكل مشتبكا فى حوار مع أحدى الموظفات الإداريات باليونسكو وكان واضحا أن هناك مشكلة فى حاجة إلى حل وبادرنى الأستاذ عندما رآنى قائلا: تعالى شوف الست دى عايزة إيه.. وعندما سألتها قالت إن هناك بدل سفر خاص برئيس لجنة الصحافة والإعلام وهى تريد أن تسلمه المبلغ.
وارتسمت على وجه الأستاذ هيكل ابتسامة عريضة وقال: ياسيدى قل لها إنى لا أريد شيئا.
وعندما أكدتُ لها ما يقصده ظهرت على وجهها علامات التعجب وعلقت قائلة: أعمل منذ أكثر من عشرين عاما باليونسكو ولم يصادفنى أحد يرفض بدل السفر.. إنه حقه.. خاصة أنه لم يكلفنا تذكرة سفر ولا إقامة ولا حتى تنقلات.
والحقيقة أننى شعرت بالزهو من موقف الأستاذ هيكل لأننى خلال إقامتى بباريس كنت شاهدا على مواقف مخزية يتلهف فيها البعض على المادة ويسعون وراء الدعوات والمميزات.
ولست فى حاجة إلى أن ينبهنى أحد إلى أن هناك فارقا كبيرا بين الموقفين. فالموقف الأول كان بطله حسنى مبارك الذى كان على رأس نظام اتخذ من شراء الذمم والضمائر سياسة ممنهجة. أما من هم غير قابلين للشراء فكان يتعامل معهم من خلال المجاملات والمميزات الخاصة التى من المفترض أن تجعلهم يتحرجون من توجيه النقد إليه. وكان هيكل كما يبدو فى الكتاب واعيا تماما لهذه الحقائق ولا يريد أن يكون مدينا لأحد. أما اليونسكو فهى منظمة دولية كبرى تدعو ضيوفها ومن الطبيعى تماما أن تتكفل بكافة المصروفات المتعلقة بهم سواء السفر أو الإقامة أو التنقل.
وأكاد أسمع تعليق البعض أن هيكل يمتلك ثروة كبيرة ولديه رفاهية الترفع عن المادة لكنى أؤكد مجددا أن تجربتى فى باريس سواء لمدة خمسة أعوام كاملة بمنظمة اليونسكو أو كمدير لمكتب الأهرام بعد ذلك جعلتنى شاهدا على كثير من المقتدرين وأصحاب الجاه الذين يريقون ماء وجوههم للحصول على أقل المنافع وكنت أتذكر وأنا أراهم المثل الشعبى الذى يقول: “أنا غنية واحب الهدية”.
ولست من الذين يتقفون مع الأستاذ هيكل فى كل ما يكتب أو يقول وكثيرا ما اختلف مع النتائج التى يخرج بها من تحليلاته. لكنه كلما قرأت بعض من يشنون هجوما لاذعا عليه وخاصة فى عصر مبارك أتبين أن هناك سنوات ضوئية تفصل بينه وبينهم فى المعرفة والثقافة العامة والمهنية والتعمق فى الشأن السياسى.
وبالتأكيد أن الظروف قد خدمت هيكل كثيرا عندما وضعته فى طريق الزعيم الراحل جمال عبد الناصر فى حقبة تفجرت فيها الآمال والطموحات. ولا شك أن الأقدار بمفاهيم التراجيديا الإغريقية قد دفعت بالرجل إلى مكانة لم يصل إليها صحفى مصرى من قبله أو من بعده. لكنه من المؤكد أن هيكل يملك من المؤهلات والكفاءات ما لا يملكه من يشنون الهجوم عليه. وكم من الرجال وضعتهم صروف الزمان فى مواقع المسئولية فأساءوا إلى مواقعهم وهبطوا بها إلى أسفل الدرك.
وقد أردت بهذا المقال أن أدلى بشهادتى فى واقعة لم يطلع عليها غيرى فى مصر وربما تلقى بالنسبة للكثيرين بعض الضوء على جانب من شخصية عميد الصحافة العربية.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version