كتّاب

بين الأعوام 1975 و1978 عاش منصور في وادي المُلك. سلك بعد ذلك طريق السيل مرة أخرى…


بين الأعوام 1975 و1978 عاش منصور في وادي المُلك. سلك بعد ذلك طريق السيل مرة أخرى، أو طريق الجراد، ووجد الحرب.
سنعود لهذه القصّة فيما بعد.
إذ جنحت سفينة قادمة من البحر البعيد ودخلت تراب وادي المُلك، وكان مفترضاً أن تنزل في ميناء الحُديدة. وكان نجيب الأدرد يصرخ على ظهر السفينة “الرياح شديدة والسفينة في أضعف حالاتها ونحن لا نزال في المحيط، دعونا ننزل في عدن أو أبين”. فاقترب منه قائد السفينة، وكان بحّاراً هنديّاً، وأمسك بعنقه:
“اهدأ قليلاً، صراخك هو آخر ما نحتاجه في هذا الوقت. ماذا تظن عدن؟ عدن دولة أيها الأحمق. ستهاجمنا بحرية عدن وسنغرق في لمح البصر”
وكانت تلك الكلمات قاسية على قلب نجيب الأدرد، ومقنعة. وعندما قصّ ذلك الموقف على منصور الأعرج شرد الأخير، وتذكر القصّة لأيام، وكان يسأل نفسه “تُرى أين هي عدن؟ وكيف يبلغ المرء الأعرج عدن”؟ وبالرغم من أن منصور لم يفهم بالضبط ما معنى القوات البحريّة وكيف ستغرق السفينة في لمح البصر، حتى إنه لم يسألْ، إلا أن عدن نالت احتراماً عميقاً في قلب منصور. وقال له نجيب “إنها القرية المذكورة في القرآن، ألم تسمع عنها؟” فأبعد منصور عينيه عن وجه رفيقه وذهب يتأمل نخلة قريبة منه.

حدث ذلك في الخامس من يوليو 1977، التاسع عشر من رجب، 1397 هجرية. كانت أول سفينة تدخل وادي المُلك بين العصر والمغرب، كما قالت زوجة الشيخ مُعين لابنها جعفر.
من تلك السفينة البالية، ذات الأشرعة الممزقة والجدران الخشبية السوداء، نزل نجيب. كان في منتصف الثلاثينات من العُمر، أسمر اللون فقد سنّيه الأماميتين الفوقيتين على ظهر سفينةٍ قبل سنين، ولم يكن هنالك من أحد سوى البحر وبعض البشر سود البشرة.
صاح نجيب قائلاً إنه لا يصدق أنه رأى الرمل أخيراً. جثا على ركبتيه، وقبض على الرمل ثم فركه على صدره. كان منصور الأعرج وبعض سكّان الوادي يقفون على بعد خطوات منه، يتأملونه باندهاش وشيء من الذعر والريبة. وكانت الشمس تقع إلى الخلف من ظهره، وإلى الخلف من السفينة، وإلى الخلف من البحر.
قال إنه قادمٌ من أفريقيا، فسأله الشيخ مُعين بلهجة حازمة “أفريقيا كبيرة، من أين جئت؟”. بعد أن ألقى مُعين سؤاله الخطير التفت إلى منصور وقال هامساً وبثقة معلّم خبر العالم “لعلّه من البرتغاليين”، واستدرك:
“يوجد برتغاليون سود البشرة”.
ثم ضرب بيده اليسرى على مؤخرة رجل يقف إلى جواره:
“قيس هذا من نسل البرتغاليين السود”
فضحكوا بصوت موحّد ورتيب، وأحس الغريب بشيء من الأنس.
كان رفاقه يراقبونه من على ظهر السفينة التي بقيت في الماء القريب.
قال لهم وكان لا يزال يلهث:
“اسمي نجيب، أعمل في صيد الأسماك، وأفريقيا ليست كبيرة”.
اقترب منه منصور الأعرج وصافحه. وقف الرجل في محاذاة منصور وبدا أنهما متطابقان في حجمي جسديهما. ابتسم نجيب فوقعت عينا منصور على أسنانه المفقودة، واكتشفت حدقتا الرجل عرجة منصور.
اتجه منصور بضع خطوات ناحية السفينة ونادى الرجال للنزول، فلوّحوا بأياديهم. قال نجيب “دعهم، لن ينزلوا”. وضع نجيب كفّه اليمنى على جبهته كي يتسنّى له رؤية ملامحهم لكن الشمس بدلاً عن أن تدخل في عينيه فإنها تسللت من فجوة أسنانه ودخلت فمه. شاهد سكّان الوادي تلك اللحظة، وكانوا قد اقتربوا من السفينة مع منصور. ولم تمض سوى ليلة واحدة حتى كان اسمُه نجيب الأدرد.
صار صديقاً لمنصور الأعرج، وسيعرفان الطريق إلى الحرب معاً. سيحارب منصور الأعرج مع الإسلاميين، وسيقاتل نجيب الأدرد إلى جوار الشيوعيين.

ـــــ

من رواية “تغريبة منصور الأعرج” لمروان الغفوري
تصدر قريباً.

محبتي .

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫19 تعليقات

  1. إذا كان النص هذا جزء متواصل فعند قراءتي له احسست بجهد ذهني لكي افهم ،، حيث لايوجد سلاسه وانسياب في التنقل في المشاهد ،، نص جميل لكن بحاجة إلى إعادة ترتيب وتغيير بعض الشي ،، تقبل مروري

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى