كتّاب

حب الحياة في العقيدة المصرية الفرعونية:…


حب الحياة في العقيدة المصرية الفرعونية:
فى مثل هذه الليالي الباردة، كان وجود “المنقد” المصنوع من الفخار أو النحاس جزءا أساسبا من حياة بيوت الريف، وكان من بيننا الماهر في تهيئته للاشتعال ورص القوالح الجافة وبعدها الخشب الأكثر صلابة والأقدر على أن يظل جمرا متوهجا باعثا للدفء حتى منتصف الليل.. وكطقس بدائي يعود لحوالي مليون سنة كنا نتحلق جميعا حوله، بوجوهنا، ويستحيل ان تجد من يولي النار ظهره، ويكون التحلق حول النار مناسبة لكثير من النشاط والعبث اللذيذ، كشي بعض اكواز الذرة أو أزرار البطاطا، أو بيضه ندفنها في الرماد المشتعل حتى نسمع صوت فرقعتها وقد استوت، أو تقمير الخبز أو إعداد القهوة والشاى للكبار، وربما نلف ونحن صغار ورقة من كراسة او جرنال ونضع طرفها في النار حتى تتوهج ونأخذ منها أنفاسا من الدخان مقلدين الكبار،
المهم في ظل هذا العبث وضعت على الجمر المتوهج “عودا من البرسيم الأخضر” – وما أكثر العيدان الخضراء في البيوت – لأفاجأ بغضب عارم من ستي وأمي وأبي وشتم وزغد وسعي لاستنقاذ عود البرسيم من النار…
وبعد أن كبرت رحت أسعى لتفسير الظاهرة التي حيرتني زمنا طويلا، وخاصة بعد أن عرفت أن الهلع من وضع أعواد خضراء في النار تقليدا مشتركا في جميع البيوت،
لأعرف أن العقيدة المصرية القديمة كانت تقوم أساسا على حب الحياة وتقديسها، في جميع صورها الحيوانية والنباتية، وترى أن الإنسان واحد من هذه الكائنات الحية وليس سيدا عليها ولا محورا لها ولا مقررا لمصائرها، وهو وهي أجزاء متناسقة في دورة إلهية سرمدية، ولم يكن يقتل المصريين طائرا أو حيوانا إلا لأكله.. أو للدفاع عن أنفسهم وحاجاتهم، كفأر يدخل حجرة الخزين مثلا، وعندما كنت أشارك في صباى في زفة احتفال الطريقة الرفاعية بمولد النبي والمريدين يحملون أشكالا متنوعة من الثعابين والإفاعي، كنت أسألهم: ماذا تفعلوا بالثعابين بعد الزفة؟ كانوا يجيبون بهدوء وثقة، نعيدهم إلى أماكنهم التي جلبناها منها فهي مخلوقات ربنا تُسبحه مثلنا تماما.
ولذلك فقد احتفي المصريين في فنونهم بمختلف الحيوانات والطيور والنباتات..واتخذوا من صورها وتماثيلها رموزا لآلهتهم، وأحبوها، واتخذوها شعارات لأقاليمهم وبلادهم كالوتس لمملكة الجنوب والبردي للشمال، وسموا بناتهم خضرة وزهرة ووردة ونوارة ونعناعة وريحانة، وضفروا جديلة من سنابل القمح لتحمي بيوتهم من الحسد والشر، ودفنوها معهم في مقابرهم لتصحبهم في الحياة الأبدية كما صحبتهم في الحياة الفانية، كل هذا لأنها كائنات مثلنا خلقها الإله لتشاركنا الحياة.
ومن هنا كانت ثورة أهلي عندما وضعت عود البرسيم الأخضر في أتون النار.
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى