كتّاب

” … كان العالم يزعجه، كل العالم، وكانت عرجته تزيد غربته….


” … كان العالم يزعجه، كل العالم، وكانت عرجته تزيد غربته.
عندما كان في العاشرة، بعد وفاة أمّه بعامين، أخذته سيدة عجوز تسكن في أطراف حذران فرافقها إلى قرية عُقاقة. كانت عقاقة قرية قديمة تقع عند سفح جبل صبِر وتنظُرُ إلى مدينة تعز جهة الشرق. هناك مس الطفل ضريح “سيدة الحور” وقبّله، كما فعلت السيدة العجوز. كانت السيدة العجوز تبتهل وتذكر الكثير من الأسماء. أما منصور فكان يذكر اسماً واحداً. كان ضريحاً مطلياً باللون الأبيض لا تحيط به البيوت، وفي أعلاه شاهد محاط بمئات الخيوط الملوّنة. للضريح شبّاك صغير يفضي إلى بهو أو فراغ محدود. دسّت العجوز يدها في تلك الحفرة ووضعت شيئاً ما، ولم يدرِ منصور كنهه.
كانت سيدة الحور، والدة الباهوت أحمد بن علوان، تنام في ذلك الضريح منذ مئات السنين.
“حذران مباركة بهذه الروح الطاهرة” قالت له العجوز.
“وقبر أمي؟” سألها.
“وقبرُ أمّك مبارك بروح سيدة الحور” أجابت.
“وقبرُ أبي؟” سألها.
“قبور الرجال لا تباركها سوى قبور الرجال. لو ذهبت إلى قبر الباهوت في يفرُس، بين الجبلين، ورجوته لارتاح أبوك في قبره.”
مسحت على رأس الطفل محاولةً أن تنتشله من حيرته وألمه:
“أبوك كان يؤذي أمّك، أنت تعلم ذلك. لا شك أن روحها ستعذبه في القبر. لقد نال ما يكفي من العذاب منذ موته. صار لازماً عليك وقد كبُرت أن تذهب لتطفئ ناره”. وكان أبوه قد توفي منذ ثلاثة أشهُر.
قبّل الطفل منصور الأعرج ضريح سيدة الحور مرّة أخرى، وجلس على ركبتيه كما يفعل الكبار. فركتْ السيدة العجوز شعر رأسه، وحكّت بأناملها خدّه الأيمن، بينما كان غارقاً في ابتهاله وحيرته.
“من مسَح على رأسِ يتيم كُتِبت له بكل شعْرَةٍ حسنة” ذهبت المرأة تحدث نفسها دون صوت. ووقفت تتحسس الشعر الناعِم لمنصور محاولةً الوصول إلى كل شعرة. غمرت السعادة العظيمة صدر منصور الأعرج، وكان الله قد دفع ثمن سعادته في تلك الساعة.
عندما اقتربا من حذران، بين العصر والغسق، أشارت المرأة العجوز بيدها إلى الشمال الغربي “لو سرت من هناك ستجد ضريح الباهوت أحمد بن علوان”.
“ولو سرتُ من هناك؟” سألها وهو يشير إلى الغرب.
” ستجد البحر، أو لن تجد شيئاً” قالت.
“وعرجتي؟ هل أصل إلى البحر أو إلى الباهوت وأنا أعرج؟”
“المرء يسير بقلبه لا بقدميه. انظر إليّ. تأمّلني.”
وراحت تدور في مكانها.
” المسافة التي مشيناها معاً ليست هيّنة على عجوز في سنّي وصحّتي.”
وهي تضع يدها على الجانب الأيسر من صدرها قالت:
“هُنا السر، والقوة، والعذاب، والضعف. أول من سيدخل الجنة رجلٌ أعرج”
بُهِت الطفل الذي كان اسمه منصور الأعرج.
“أعرج؟ وكيف عرفتِ ذلك؟”
“سمعتُ. سمعتُ أنه رجلٌ أعرج أكله سبع بين الوادي والجبل. كان ذلك في زمن المسيح عليه السلام. وعندما رأى المسيح ما بقي من عظامه اقشعر جسده وبكى حتى خجلت السباع من دموعه وتقيّأت جثّة الأعرج على طريق الخيول. سأل الله عن الأمر فأخبره عن المأكول. كان رجلاً أعرج أراد أن يكون أول الداخلين إلى الجنة ولم يكن عمله يبلغه تلك المنزلة، ولم يكن يحبّ أن يسعى كثيراً في الأرض. كان لا بد وأن يأكله وحش، فلم يعُد لديه من وسائل أخرى لبلوغ الدرجات العُليا التي يطلبها.”
“أشعر بالخوف، لا أريد أن أكون أول رجل يدخل الجنة”
قال منصور، وابتسمت السيدة العجوز التي لم نعثر لها على اسم.
في تلك الليلة من ليالي يفرُس، في ذلك المسجد حيث قبتان كبيرتان متجاورتان إحداهما تغطي رؤوس المصلّين والأخرى ترتفع فوق ضريح الباهوت ابن علوان، وقبل أن ينام منصور الأعرج قلّبَ كتاباً موضوعاً في كوّة صغيرة إلى اليمين من مكان صلاة الإمام.
“المهرجان للعارف بالله أحمد بن علوان” هكذا كان عنوان الكتاب، وكان مدوّناً بخط يد. تعلم منصور الأعرج القراءة في طفولته، وتلك قصة أخرى إذا لم نأتِ على ذكرها فلنتذكر أنه تعلم القراءة في سن مبكّرة.
مر منصور بالصفحات كما لو كان يطّلع على خزينة أسرار القرية، أو يطأ بستاناً محرّماً.
“إذا أنزلَك عزلك، وإذا عزلك حملك، وإذا حملك أغناك، وإذا أغناك أفناك، وإذا أفناك بدا بذاتك، واتصف بصفاتك”.
انفجر طوفان العارف ابن علوان في ذلك الليل فأغرق المريد الجديد. لم يكن منصور بسنواته الثمانية عشرة قادراً على أن يصعد تلك الموجة. أما أنفاسه فتجمعت كلها في حنجرته وخنقته، وبَهَتَ وجيب قلبه. ترك الكتاب جانباً، أصابته رعدة. اتجه إلى باب المسجد وأعطى صدره للجبل. كانت أنفاسه تنهب حنجرته وتصطدم بالهواء البارد في الخارج، وسرعان ما تصير إلى سحاب صغير من الدخان لم يره منصور. وضع يده على صدره ثم على جبينه، وأصابه دوار وكاد يتقيّأ. تحسس طريقه مرّة أخرى إلى الداخل. أشعل الفانوس ودلف إلى قبّة الضريح، حيث ينام العارف بالله أحمد بن علوان. جثا منصور على ركبتيه. طأطأ رأسه ولهج:
“أبي”
ونسي ما كان يريد أن يقوله. ”

ــــــ

من “تغريبة منصور الأعرج”.. رواية لمروان الغفوري تصدر قريباً عن دار الآداب، بيروت.

نهاركم سعيد.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫25 تعليقات

  1. متى بيرجع صاحبك الاعوج علي محسن يا غفوري؟ كليهما خونة علي عفاش وعلي محسن وكليهما قد خانا اليمن لاجل عدوة الشعب اللدودة السعودية … هل تقدر ان تؤلف رواية حول هذه الحقيقة يا عزيزي ام انك لا تستطيع تخيل وطنك من غير ان يتحرش به عربان نجد؟

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى