توعية وتثقيف

سنغافوره … سنغافوره…


سنغافوره … سنغافوره

حدث فى التسعينات أن صبياً أمريكياً عمره ١٦ سنة كان يزور والديه فى سنغافورة، و قبض البوليس عليه متلبساً بخدش طلاء عدد من السيارات المركونة فى الشارع – ليس بغرض سرقة شيئ، بل بغرض التخريب (vandalism) من أجل التخريب ذاته (*). أمسكه البوليس بعد أن كان قد شوه نحو ٢٠ سيارة، وبعد محاكمة سريعة صدر عليه حكم بالسجن و الغرامة و ٦ جلدات.

هاج الإعلام الأمريكي و ماج على “وحشية” الحكم، و إتصل الرئيس كلينتون برئيس وزراء سنغافورة وقتها لى كوان يو (Lee Kuan Yew)، ليخبره أن الأمريكيين يستهجنون فكرة العقاب الجسدي، (الجلد،) و يعتبرونه نوعاً من التعذيب، و طلب منه أن يتدخل لتغيير العقوبة.

أصر القاضى على تنفيذ الحكم بكل بنوده، لكنه وافق، (إكراماً لكلينتون،) على تخفيض عدد الجلدات من ٦ إلى ٤ (كتعبير عن تقدير بلاده لأهمية صداقتها مع الولايات المتحدة.) فى النهاية تلقى الصبي التعيس ٤ لسعات بالخرزانة على مؤخرته، و قضى ٦ شهور فى السجن، و دفع أهله ٣٥ ألف دولار غرامه. أغلب الظن أنه أقلع بعد ذلك عن هواية تشويه سيارات مخاليق الله فى أوقات فراغه.

سلطت هذه الواقعة ضوءاً ساطعا على فلسفة لى كوان يو السياسية، وهي فلسفة نجحت فى تحويل سنغافورة، فى خلال جيل أو جيلين، من بؤرة للفقر و التخلف و الفساد إلى أحد أرقى و أغنى المجتمعات فى العالم. كان لى كوان يو يؤمن بأن التسيب و الفساد ينتجان من “إرتخاء” السلطة، و إعتقاد الناس بأن الحكومة غير جادة فى تطبيق القوانين، أو غير قادرة. لذلك إستنت حكومته حزمة من القوانين الصارمة لمعاقبة التسيب و الهمجية … حتى أن رمي لبانة ممضوغة أو عقب سيجارة فى الشارع كانت عقوبته ٥٠٠ دولار (و هو مبلغ كان مؤلماً للغاية فى ذلك الزمن،) أما غرامات المرور و الإزعاج و الهمجية بكافة أنواعها فكانت أعلى من ذلك.

إحتج الأجانب على تلك القوانين التى إعتبروها “إستبدادية (draconian)،” لكن لى كوان يو تمسك بها، و فى خلال جيل أو جيلين أصبحت النظافة والسلوك المتحضر بمثابة طبيعة ثانية عند الناس لا يعرفون غيرها. ولم تعد الحكومة تحتاج إلى قوانين دراكونية لتحقيقها.

لم تكن “صلابة” الدولة هي كل شيئ فى جعبة لى كوان يو – بل كانت هي العنصر الثانى أو المكمل. أما العنصر الأول و الأساسي فكان تطوير العنصر البشري. كرست سنغافورة أفضل كوادرها و أوفر مواردها لتنمية التعليم والبحث العلمي بسرعة و كفاءة لم يحدثا من قبل فى تاريخ البشرية، و سرعان ما أصبح طلاب المدارس والجامعات السنغافورية (و ما زالوا) يحرزون أعلى تقديرات فى العالم فى المقارنات التى تجريها منظمة اليونسكو.

و هكذا خلقت سياسة لى كوان يو فى سنغافورة مناخاً يحس فيه الناس بالإنضباط وسيادة القانون و صلابة الدولة. حيث صلابة الدولة لا تعنى الإستبداد، بل تعنى إحترام القانون و سيادته على الجميع. وشجع ذلك الشركات العالمية على الإستثمار فى سنغافوره – لا لرخص الأيدى العاملة (فهي ليست رخيصة،) بل لوجود المهارات و جودتها، بالإضافة إلى الثقة فى سيادة القانون و فى مستقبل الإستثمارات.

ما فعلته سنغافورة هو نموذج يُحتذى – إذا أحسنت بناء البشر، ستقع كل قطعة أخرى فى مكانها. المبدأ يبدو بسيطاً و واضحاً، لكن تنفيذه على أرض الواقع لم يكن ممكناً لولا عبقرية لى كوان يو السياسية و موهبته القيادية.
____________________________________
*) هذه جريمة شائعة فى المدن الأمريكية الكبيرة، تسمى ‘keying’. التسمية مشتقة من كلمة مفتاح، لأن المجرم عادة يستعمل مفتاح سيارته فى خدش سيارات الآخرين.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫9 تعليقات

  1. جميل وقوع كل قطعة في مكانها … لكن للأسف التراخى و غياب القانون ملأت الأماكن بقطع فاسدة . نتمنى كل الخير لمصرنا الحبيبة و شعبنا الطيب 🌹

  2. ده سهل نسبيا في city state بحجم سنغافوره

    انما الموضوع مش ب هذه السهوله في مجتمعات اكبر

    في العاده تكون الحاجه ل عقد اجتماعه اساسه سليم ( و علي راسها الاساس الاقتصادي )
    لان حجم جهاز تنفيذ القانون اقل من حجم المواطنين بما لايقاس
    و لا ينفع مجرد الخوف من السلطه ك عامل انفاذ للقانون .

  3. أهلا وسهلا بكم يا دكتور وكل سنة و حضرتك طيب. اذكر هذه الواقعة ، و أذكر جانب آخر ، و هو أن جيران ذلك الفتى العابث في أمريكا أعلنوا تشجيعهم و اغتباطهم بهذه العقوبة لأنه قبل السفر لسنغافورة( مطيّن ) عيشتهم بشقاوته و مشوه سيارات الحي .

  4. مصر مليانة عيال عندهم نفس الهواية مسمار مدبب وعلى الاقل خدش بالعشر عربات فى طريقه محتاجين لى كوان يو هذا الرجل العظيم

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى