حالة رضية المتوكل…


حالة رضية المتوكل
مروان الغفوري
ــــــ
وقعت عيني، قبل عام، على تقرير كتبته/ أعدته “رضية المتوكل” حول الوضع الإنساني في تعز. أعد التقرير بذكاء، وكان متعاطفاً مع الضحايا. كان نصاً يشجب الجرائم ضد المدنيين، ويتحدث عن قذائف تأتي من “مصدر مجهول”.

كانت تلك هي البداية:
القذائف ذات المصدر المجهول التي تنهال على مدينة محاصرة من ثلاثة جهات بآلاف المسلحين ومئات العربات العسكرية.

القذائف “ذات المصدر المجهول” و”أطراف النزاع” هما الدالتان اللتان ستعيش عليهما رضية المتوكل، وسيوفران لها عملاً. أن تصبح الكتابة عن الحرب مهنة، أن يتعايش المرء مع أي نظام بشرط أن يوفر ذلك النظام “أخطاء” يمكن رصدها، وتدوينها ثم نشرها. أي أن يوفر عملاً.
ذلك النوع من العمل يرتفع حد الارتزاق من دخان الكوارث. أن تتحول مصائر الدول والشعوب إلى “جداول مقارنة”، وأن يتشابه الجميع من زاوية نظر حادة: الغزاة والأحرار، الإرهاب والمقاومة، الدولة والانقلاب، السلاح المقاوم والسلاح الغازي، الرئيس المهزوم وقائد العصابة المظفر، الدولة الرخوة والعصابة المجرمة، الشعار الطائفي والنشيد الوطني، نهب الدولة ونهب متجر، تفكيك الجمهورية وموظف جمارك فاسد، و.. الثورة الشعبية والثورة المضادة.
ستعمل رضية المتوكل، بجلَد يثير الإعجاب، على القول إن كل الدوال/ المواضيع متشابهة، وأنه لا فرق. ذلك أن حديثها عن التشابه يمنحها حيزاً للحركة كموظفة بيروقراطية تعمل على تحويل الكوارث إلى مختصرات وجداول. لا بد وأن يتشابه الجميع حتى يصبح لعملها معنى، لا بد وأن الجميع سقطوا لأن ذلك سيكون جيداً بالنسبة لها، لها وحسب. نحن بإزاء موقف يجعل من سوء إدارة “نظام منتخب” للدولة جريمة تساوي، أو تزيد عن، جريمة انقلاب جماعة دينية على الدولة وسحقها. إنه موقف يجعل من الدولة الرخوة واللادولة صورتان للشيء ذاته.

لا يحتاج أحد لأن يقوض المنطق على هذه الطريقة المذلة، ذلك أن مثل هذه الاستنتاجات لا تغير طبائع الأشياء ولا ماهياتها لكنها كفيلة بتحويل صاحبها إلى أحمق، عند أحسن الظروف.

حدث قبل تقرير “قذائف المصدر المجهول” أن كتبتُ تعليقاً حول مقولة تنسب إلى المفكر السياسي الراحل محمد عبد الملك المتوكل. المتوكل هو أيضاً والد الناشطة المعروفة رضية. سبق للرجل أن قال، في جلسة خاصة جمعته ببعض أعضاء هيئة التدريس في جامعة صنعاء، أن أزمة نظام صالح يمكن فهمها، فمثل تلك الأزمات “تحدث عندما يصل أولاد الشوارع إلى الحكم”.

قلتُ:
يبدو أن هذه الفرضية تضع اعتباراً بالغاً للأنساب في الحقل السياسي. أزعم أني قارئ جيد، غير أني لم أحصل حتى الآن سوى على دراستين منهجتين تقتربان، بصورة ما، من هذه الفرضية. الأولى من جامعة دمشق، قام بها أكاديمي من أصل فلسطيني ذهبت استنتاجاته، المليئة بالإحالات، إلى القول إن الاستقرار السياسي يرتبط، إلى حد ما، بالطبيعة الجغرافية التي قدم منها رئيس النظام. فالريفيون، تقول الدراسة، اتسم حكمهم بالصراع واللااستقرار، بخلاف الحكام القادمين من الحضر. أما الدراسة الثانية فأجراها باحثون من جامعة ميتشغن تتحدث عن الدور الكاريزمي لقائد النظام في الانتقال من الطور ما قبل المؤسسي/ الجنيني إلى الدولة الحديثة. استنتجت الدراسة “فرضية” تقول إن ٨٥٪ من نجاحات النماذج المدروسة من العالم الثالث اعتمدت على الشخصية الكارزمية للحاكم.

كاريزما الحاكم، أو طبيعة الجغرافيا التي قدم منها: فرضيتان بحاجة إلى مزيد من الدراسة. لم أعثر على دور للنسب سوى في الكتب المقدسة، وهي فرضية فوقية لم تختبر معملياً: لدى اليهود، الحوثيين، قبائل جنوب الصحراء في أفريقيا، وبعض مراحل هيمنة قبائل الفايكنغ في شمال أوروبا. هي، إذن، فرضية بدائية لم يختبرها العلم ربما لعدم الحاجة لاختبارها كونها فارغة من أساسها. فضلاً عن ذلك، فقد ارتبطت بتلك الفرضية، ذات المنزع المتفوق/ الآري، فظاعات واضطرابات في مراحل كثيرة من التاريخ.

قلتُ نحواً من هذا الكلام فكتبت الناشطة الحقوقية رضية المتوكل:
“لا أرى فرقاً بين مروان الغفوري وعبد الملك الحوثي”
تعليقاً على ما قُلته.
لم أفهم، بالمرة، كيف حدث أن صرتُ نسخة أخرى من الحوثي بما سيعني أني دمرت بلداناً وقوضت عُمْراناً وسحقت أسراً وقضيت على “أمل” أمة من الناس تعدادها ٢٥ مليوناً.

كالعادة:
كلهم متشابهون، كلكم متشابهون، من يقول رأياً ومن يغزو المُدن، من تصيبه القذيفة ومن ينظف فوهة المدفع بغترة مسروقة.
كان تعليقها ينتمي إلى ذلك النوع من النقاش التافه الذي، لشدة تفاهته، يصعب دحضه.
ستعمد، على الدوام، إلى إعادة تكرير موقفها هذا من كل الظواهر والتجليات: في الحرب والسلم والثقافة والسياسة، وسيوفر لها عملاً.

إنها تعمل، ببساطة.

تملك رضية المتوكل، وهي مجرد أنموذج لحالات كثيرة متشابهة، مقداراً كافياً من العقل والمعرفة قادراً على أن يبصرها الأشياء ضمن حقيقتها. لكنها، ربما، تخشى رؤية الأشياء كما هي، فقد تتسبب الرؤية المبصرة في فقدان عملها. لا يستخدم المرء كل حواسه معاً إلا إذا كان محتاجاً لها، محتاجاً بالمعنى الشامل. تلك هي فكرة الانتخاب الطبيعيthe natural selection. تنقرض أجناس، أو أنواع، أو تحت ـ أنواع عندما تهمل بعض حواسها، وقدراتها، معتقدة أنها تشتري فرصة مريحة ووضعاً أفضل. الأنواع التي وصلت إلى “الهومو سبيان”، الإنسان الأعلى، هي تلك التي احتشدت بكامل قدرتها، في أزمنة صعبة وسحيقة وقبلت تحدي قوى التقويض البيئية وفوق الطبيعية وبارزتها. لكي يمجد اليهود نوعهم الخاص، وتاريخهم التطوري، فقد أنزلوا الرب من عليائه وجعلوا إسرائيل يهزمه في الصحراء.

القول إن كل الأشياء تتشابه، كل الظواهر تتطابق، كلهم سقطوا، وكلهم يبعثون القدر نفسه من القشعريرة والرهبة هو “القول المريح”. ولا يلجأ الكائن إلى القول المريح إلا لأنه يدر عليه حياة جيدة.

عندما كنا نؤسس للطريق الثالث، كاختيار سياسي وثقافي، طرحنا فكرتنا على الجميع. في تلك الأيام بدأت، على الصعيد الشخصي، في دراسة حالة الحياد الشامل التي يسكن داخلها نموذج رضية المتوكل. كانت استنتاجاتي المبدئية كالتالي: هل تحتاج رضية المتوكل لكتابة تقرير حقوقي يقول إن هناك عصابات، بالاسم والصورة، و على الجانب الآخر ثمة مقاومة شعبية؟ هذه اللغة لن تعجب بعض المنظمات، تعتقد رضية، لأنها تقوم على فكرة “رصد الانتهاكات” وتدوينها، وشجبها. “لن تُعجب” هي جملة مخففة يُقصد بها: الاستغناء عن الخدمات، أو فقدان الوظيفة. يتعلق الأمر بدالة الرزق، في حالات كثيرة من الحياد. كما يتعلق، في حالات قليلة، بدالة الأمن. هناك من لا يستهويه أن يكون بطلاً ولا مناضلاً، لكن البطولة والفداء مسألة مختلفة كلياً عن الموقف المبدئي من القضايا الكبيرة: الدولة، الانقلاب، المقاومة، الجيش، الميليشيا، الشعار الطائفي، النشيد الوطني، الجمهورية، السلالية..

الانتهاكات لا تنفي القيمة الأخلاقية للمقاومة، واختزال المقاومة إلى الحديث عن خطأ ارتكبته، ثم تصميم نموذج إجرائي يجعل من المقاومة وخطئها شيئاً واحداً بلوغاً حد إلغاء حضورها الأخلاقي والذهني حد تحويلها، في الصورة النهائية، إلى ميليشيا تقتل على طريقة الأعداء.. هذا عمل ليس فقط غير منهجي، ولكنه أيضاً غير حقوقي ذلك أنه يفضي إلى استنتاجات سياسية بحتة.

لا يلجأ “نموذج رضية” إلى الإيغال في شيطنة المقاومة إلا عند الاحتياج الماس لذلك: عندما تبدو فكرة أن الطرفين، المقاومة/ الدولة والعصابات/ الانقلاب، متشابهان فكرةً غير كافية في ذاتها، ولا بد من تأكيدها من جديد.
في البدء:
كانت المقاومة الشعبية في تعز ليست أكثر من ميليشيا إرهابية. وعندما كتب ماجد المذحجي، الناقد الشاب، عن احتلال الحوثيين لمؤسسة السعيد الثقافية في تعز محذراً من أن ذلك من شأنه أن يدفع “المقاومة” لمهاجمة المؤسسة، أغضبت كلمة “المقاومة” أحد دعاة السلام “علي البخيتي” ودفعته للرد على المذحجي. قال البخيتي إن من أطلق عليهم المذحجي لقب المقاومة ليسو سوى “خلايا للقاعدة”. بعد أشهر سيكتشف علي البخيتي أن العمل الذي عثرت عليه رضية المتوكل أفضل من عمله هو وسيلتحق بها. سيتحدث الاثنان معاً عن الحوثي والمقاومة بوصفهما حالتي إرهاب وعنف، تتمتعان بالقدر نفسه من القذارة التاريخية الصميمية، وترتكبان الجريمة الأخلاقية نفسها بنفس الدرجة. إنه عمل جيد بالنسبة لرضية فهو لا يكلفها الكثير، ويخلق شروط حياة أفضل.

في الحياة القصيرة لرضية المتوكل عملت على طمس جنوب اليمن وتلوينه بالأسود الغامق.
حدث ذلك كالتالي:

المقاومة، مسنودة بالجيش الوطني، وهي تقترب من صنعاء ليست سوى إرهاب وعصابات. في عدن خاضت المقاومة، مسنودة بالجيش، المعركة ذاتها تحت القيادة السياسية ذاتها وبالطريقة ذاتها ضد العدو نفسه. تجاهل “نموذج رضية” الإشارة إلى تلك الحرب. يبدو، بطريقة ما، أن المنظمات الحقوقية العابرة للحدود، لم تكن مستعدة لتمجيد تقرير حقوقي يقول إن تلك الحرب التي أدت إلى تحرير عدن كانت إرهاباً. ما لا تحب أن تراه المنظمات الحقوقية، كهيومن رايتس ووتش، لا يكتب في التقارير ولا يدون كمواقف لدى “العاملين”. راحت هيومن رايتس ووتش تتحدث في سبتمبر ٢٠١٥ عن الجيش اليمني والمقاومة الشعبية الجنوبية بطريقة جيدة: قالت إنهم لم يزرعوا لغماً واحدا، بخلاف الحوثيين.

إذن، وفقاً لهذه المعايير المجهرية التي لا تعنى بفكرة الدولة والانقلاب، بل بمسائل أصغر من ذلك بكثير، فإن الطرفين “الدولة والانقلاب” لم يتطابقا في عدن.

الجيش الوطني، وهو يستند في حركته إلى قيادة مركزية وحكومة سياسية وإجماع عربي وموقف أممي ويعمل في وضح النهار، يقترب من صنعاء. “نموذج رضية” يشير إليه باعتباره، مع المقاومة الشعبية المساندة له، حالة من الإرهاب الشامل الذي يجانس الحوثيين وربما يتفوق عليهم. لكنه ليس كذلك في عدن، ليس كذلك في الضالع.

ثمة أسباب يمكن افتراضها:
فيما يتعلق بصنعاء فثمة فرصة لإبداء موقف شخصي، بالنسبة للموظف البيروقراطي الذي يتغذى من دخان الكوارث كما هي حالة رضية. انتماء رضية إلى سلالة الغزاة الذين احتلوا صنعاء، ومشاهدتها لجنائز الهاشميين العائدين من المعارك على الأكتاف في ليل صنعاء الطويل، أقلقها على “الأهل والعشيرة”.

ثمة افتراضان آخران ممكنان:
اعتقاد رضية أن شيطنة الجيش، والمقاومة، التي يتواجد إسلاميون ـ سياسيون في مقدمتها هو نشاط لا يمس فكرة الحياد الشامل، ويصب بطريقة ما في تأكيد الحالة الشخصية المريحة. ولأن رضية، ربما، تنتمي إلى ذلك الوجدان الخامل الذي يرى اليمن شطرين في لاوعيه الشخصي. هنا تبدو أحداث عدن وكأنها تجري في جغرافيا ليست فقط خارج النشاط اليومي لرضية، البحث عن الرزق، بل خارج الدولة التي تنتمي إليها. تسري هذه الفرضية على كل الذين هنأوا أهل عدن بالتحرير وقالوا إن مقاومة تعز، والجيش الوطني العامل فيها، ليست سوى حالة من العنف والإرهاب..

تكتب رضية تقارير حقوقية، وبمقدورها العيش في كل الأزمنة. إنها نموذج نقي لمن أسماهم المفكر العربي “بشارة”: البيروقراطيون القادرون على العيش في كل الأزمنة، وتحت كل الأنظمة، لأنهم بلا ملامح. فهي لا تريد من النظام، أي نظام، سوى أمر واحد: أن يرتكب مخالفات يومية يمكن تدوينها. خطايا النظام اليومية، أي نظام وأي خطايا، سيجري تكريرها عبر دفتر التدوين الحقوقي اليومي. إنها ضرورية “لأنها تحفظ للمرء وظيفته” بالتعبير البيروقراطي الألماني.

مع اقتراب الجيش الوطني من صنعاء، مسنوداً بأحلام الدولة على كتفيه، ارتبكت الحالة اليومية لرضية المتوكل، واضطربت قليلاً. لقد تعايشت مع المشهد الراهن بكل تعقيداته، فهي تخرج في الصباح تتحدث إلى النساء اللائي اعتدى عليهن الحوثيون، وعن الصحفيين الذين تعرضوا للقمع، وعن موظف صغير اقتطع الحوثيون جزءاً من ماهيته الشهرية. بالنسبة لرضية المتوكل فذلك وضع أكثر من كافٍ لتحتفظ بوظيفتها، وتجد عملاً. ما حدث في عدن لم يربك المدونة اليومية لرضية. ما قد يحدث في صنعاء ربما يكون كبيراً إلى الحد الذي يفقد معه الموظف البيرواقراطي القدرة على التركيز، وقد تتغير الأقدار، وتتخلق وظائف جديدة ويأتي موظفون جدد.

وذلك هو الإرهاب الذي يخشاه الموظف البيروقراطي، أو رضية.
ويا له من إرهاب!

م. غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version