توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشريه (١٧)…


جولة فى تاريخ البشريه (١٧)

كان موضوعنا فى الحلقات الثلاث السابقة هو تطور العلم وإرتباطه بتطور الصناعة. ذكرنا أن تقدم العلم وتقدم الصناعة فى شمال أوربا حدثا على نحو متزامن ومترابط، لذلك يمكننا أن نستعمل الصفة المركبة ونتحدث عن التطور ‘العلمى-الصناعى’. عندما نتأمل تاريخ ذلك التطور يمكننا رصد ثلاثة طفرات كان لها تأثير هائل على حياتنا –
١. الطفرة الميكانيكية، ونرصد بدايتها مع إختراع الآلة البخارية الدوارة حوالى سنة ١٧٧٠.
٢. الطفرة الكهربائية، ونرصد بدايتها مع إدخال النور الكهربائى فى مدينة نيويورك سنة ١٨٨٢.
٣. طفرة المعلومات، ونرصد بدايتها مع ظهور الحاسب الشخصى (personal computer) حوالى سنة ١٩٧٦ والشبكة العنكبوتية العالميه (world-wide web) بعد ذلك بقليل (١٩٨٣). هذه مرحلة ما زلنا نعيشها وكثيرون منا ساهموا فى حدوثها، وهي موضوع هذه المقاله.

رصدنا بداية عصر المعلومات مع ظهور أول حاسب من شركة أپل (Apple). لكن جذوره ترجع إلى ما قبل ذلك بنحو ٣٠ سنه، إلى إختراع الترانزستور فى معامل بل (Bell Labs) فى الأربعينات من القرن الماضى (*). سرعان ما أدرك العلماء أنهم يستطيعون صناعة عدد من الترانزستورات على نفس الشريحة (**)، موصلة على النحو المطلوب، وجاهزة لأداء الوظيفة المطلوبة، وسميت تلك الشرائح ‘دوائر متكامله (integrated circuits)’ لأنها كانت تؤدى الوظيفة المبتغاة دون حاجة إلى تجميع. (كان من حظى أننى شاركت فى تطوير تلك التقنية بدور متواضع.)

تكونت أول الدوائر المتكاملة من ٤ ترانزيستورات لا غير، ولم نكن ندرك وقتها أبعاد الثورة الهائلة التى بدأت. لكن علماءاً ذوى بصيرة أدركوا أنه لا حدود لعدد العناصر التى يمكن تصنيعها على الشريحة الواحدة من السيليكون، وبالتالى لا حدود لحجم وإمكانيات الدائرة المتكاملة. وبالفعل تنتج المصانع الآن روتينياً دوائر تحتوى كل منها على أكثر من مليار ترانزستور، وتقوم بوظيفة حاسب إلكترونى بأكمله على شريحة واحدة (***).

من المهم إبراز عنصر أساسي يميز الدائرة المتكاملة عن غيرها من المصنوعات: السيارة مثلاً تحتوى على عدة آلاف من الأجزاء (*4)، كل جزء منها يجرى تصنيعه على حدة ثم يتم تجميع الأجزاء فيما بعد. وتكلفة إنتاج السيارة هي مجموع تكلفة الأجزاء زائد تكلفة التجميع. أما فى الدائرة المتكاملة فيتم تصنيع كل مكوناتها فى نفس الوقت وعلى نفس شريحة السيليكون. لذا لا تزيد تكلفة إنتاج الدائرة ذات المليون ترانزستور عن تكلفة إنتاج الترانزستور الواحد إلا قليلاً. هذا الفارق الأساسي بين التقنيتين هو الذى يفسر التناقص المستمر فى أسعار المنتجات الإلكترونية، بينما أسعار المنتجات الميكانيكية (كالسيارات مثلاً) ترتفع.

لكن جوهر الثورة الإلكترونية لا ينحصر فى مجرد التكلفة، بل هو فى الأساس مسألة قُدْرَه (power). لكن قبل أن نتحدث عن القدرة لا بد أن نذكر خاصية أخرى مهمة تتميز بها الإلكترونيات، وهي ‘الموثوقية (reliability)’. لا بد أن القارئ الفطين قد لاحظ أنه بينما تنتشر ورش تصليح السيارات فى كل مكان، نادراً ما ترى ورشة لتصليح الحاسبات. سبب ذلك أن إحتمال الفشل (failure rate) فى أي منتوج يتناسب مع عدد المكونات التى يلزم تجميعها فى ذلك المنتوج، وهذا العدد أقل فى المنتجات الإلكترونية عنه فى المعدات الميكانيكية بآلاف المرات (*5).

والآن نعود إلى موضوع القدره: أبسط حاسب إلكترونى اليوم تفوق قدرته أعظم حاسب شاهدته فى شبابى آلاف المرات. أدت تلك الوفرة فى القدرة الحاسبة إلى تغير نوعي فى الأداء . كان الحاسب الإلكترونى من البداية يستطيع إجراء حسابات معقدة لا يقدر عليها العقل البشرى، وبسرعة لا نظير لها، لكنه لم يكن يمتلك ذكاءاً بالمفهوم المعتاد – أي القدرة على التخمين والتروي والحكمة والتعقل والإحساس … إلخ. لكن وفرة القدرة الحاسبة والذاكرة وتطور السوفتوير أدوا إلى ظهور الشبكات العصبية (neural networks) والذكاء الإصطناعى (artificial intelligence) وهي تقنيات تقترب إلى حد كبير من قدرات العقل البشري، وستنافسه فى المستقبل بلا شك.

مع توفر القدرة الحاسبة والذاكرة غير المحدوده، و مع ظهور الشبكة العنكبوتية العالمية (World-wide Web) أصبح أغلب تراث البشرية من المعلومات فى متناول كل شخص لحظياً وبدون تكلفة تقريباً. من السهل تصور كيف أدى ذلك إلى رفع مستوى التعليم والبحث العلمى والعلاج الطبى والأمن إلخ. حدثت أيضاً طفرة هائلة فى الإتصالات. فبينما كانت الرسالة البريدية فى شبابنا تصل إلى مرماها بعد أسابيع (إذا وصلت،) تصل الرسالة الإلكترونية الآن لحظياً، وتحتوى على أية كمية من الملحقات والصور والڤيديو، وعلى وصلات لمراجع ومصادر لا حد لها. وبينما كانت المكالمة التليفونية بين بلدتين فى صباي تحتاج إلى حجز وتنظيم، ولا يقدر على تكلفتها إلا القادرين مادياً، تستطيع الآن أن تتصل بالصوت والصورة بأي مكان فى العالم بلا حدود ومجاناً.
____________________
(*) الترانزستور (transistor) هو أحد العناصر الإلكترونية التى يمكن توصيل عدد منها فى دائرة لأداء وظيفة مفيده.
**) تصنع الشريحة (chip) من السيليكون (silicon)، وهو المادة الأصلية فى الرمل. (الرمل هو ثانى أكسيد السيليكون.)
***) حجم الشريحة التى تحتوى على هذا العدد من الترانزستورات لا يزيد عن ظافر الإبهم.
*4) تحتوى السيارة على حوالى ١٤٠٠٠ مكونة تقريباً، (٣٥٠٠ فى السيارة الكهربائيه.)
*5) إنصافاً للمنتجات الميكانيكية: يتناسب معدل الفشل أيضاً مع عدد الأجزاء المتحركه، وهو أكثر فى المنتجات الميكانيكية بحكم طبيعتها.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫10 تعليقات

  1. مقال رائع و ممتع و لكن لي سؤال منفضلك
    هل الباعث أو المحفز علي عمليات التطوير المستمر و الملموس في عالم الألكترونيات بالنسبة للباحثين في هذا المجال ، هو باعث تجاري فقط يخدم الأغراض التنافسية بين المصنعين ، أم أن هناك بواعث أخري أكثر قيمة و قدسية بالنسبة للباحثين تدفعهم و تحفزهم للمضي قدما نحو العمل الدؤوب و الشاق لتطوير ذلك العلم و تلك الصناعة بشكل يحقق لهم الرضا النفسي و العلمي ؟

  2. رائع… رائع
    يالك من عالم متواضع…
    واضح أنك عمدت إلى عدم الحديث عن دورك، هلا استفضت فى الجزئية التى كان لك سهما بها، و عن الفترة الزمنية التى كان فيها ذلك؟
    يكفى أى انسان شرفا أنه بعد بحث طويل، يضيف إلى المعرفة الانسانية جملة واحدة…

  3. حضرتك العالم العلامة في تاريخ العلم و الإلكترونيات على وجه الخصوص ، درسنا في الجامعة vacuum tubes حتى تخرجنا في نهاية الستينات ، لكن دراسة الترانزيستور mosfet التي جعلت ال ic ممكنا متعة كبرى.شكرا لحضرتك.

  4. وما زال العلم يتقدم اكثر واكثر انا فاكر اثناء امتحان البكالريوس كنت استخدم المسطره الحاسبه بتعقيداتها والان فرق جوهري والغريب التقدم في الالكترونيات اسرع بكثير منها في الميكانيكا… شكرا ايتاذنا الفاضل علي هذه المعلومات.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى