توعية وتثقيف

الإعلام…


الإعلام

هل تذكر قصة الصبي الذى كان يستغيث بالناس من الذئب، فإذا هرعوا لإغاثته وجدوه يضحك ولا ذئب هناك؟ كانت تلك إحدى روائع كتاب المطالعة فى المدرسة الإبتدائية، (إلى جانب كلاسيكيات أخرى مثل ‘القرد وبائع الطرابيش’ و ‘الشحاذ و بائع الكباب’.) المهم – دارت الأيام وجاء الذئب فعلاً … إستغاث الصبي لكن أحداً لم يأتى لإنقاذه، فهو قد أهدر مصداقيته، ولما جاء وقت الحاجة لم يكن قد تبقى لديه منها رصيد.

إستوعب الإعلام الغربي هذا الدرس جيداً، و أدرك أهمية بناء رصيد قوي من المصداقية لدى زبائنه. وقد نجحوا فى ذلك بالتأكيد، حتى أن إذاعة BBC، (على سبيل المثال،) قد أصبحت بمثابة المرادف للصدق عند أغلب شعوب العالم. ويستغل الغرب رصيد المصداقية هذا كأحد الأعمدة الثلاثة التى ترتكز عليها قوته. (العمودان الآخران هما القوة العسكرية والسيطرة على آليات الإقتصاد العالمى.)

حِرْص الإعلام الغربي على مصداقيته لا يعنى أنه لا يكذب على الإطلاق، بل يعنى أنه لا يكذب فى الأمور اليومية التافهة (مثل سياسة الحكومة و المناورات الإنتخابية،) و يدخر رصيد مصداقيته لإنفاقه فقط فى الحالات التى يعتبرها “مصيرية”، مثل الأمن القومي والتحكم فى موارد العالم. كلنا نذكر (مثلاً) كيف تواطأت BBC مع الحكومة البريطانية فى الزعم بأن العدوان الثلاثى كان وليد اللحظة وليس مؤامرة متفق عليها مسبقاً. وما زال الإعلام الغربي (بما فى ذلك BBC،) حتى اليوم يروج أكذوبة أن حرب العراق كان سببها إستخبارات “خاطئة”، بينما الحقيقة هي أن الإستخبارات لم تكن ‘خاطئة’ بل كانت ‘مختلقة و مزورة’، وهذا فارق جوهري.

وحتى عندما يكذب الإعلام الغربي، (وهو لا يفعل ذلك إلا فى الأمور المصيرية كما قلنا،) فهو لا يكذب على نحو فج مبتذل كما يفعل إعلام العالم الثالث، بل بطرق متقنة طورتها مراكز أبحاث.

الكذب الفج هو إستبدال الحقيقة بعكسها، كأن تقول: “زيدٌ ضرب عمراً،” بينما الحقيقة هي أن عمر هو الذى ضرب زيد. هم لا يفعلون ذلك، بل يلجأون إلى أنواع أخرى من الكذب يصعب كشفها. أهم هذه الأنواع هو الكذب بالتغافل. فى هذا النوع من الكذب هم يقولون “زيد ضرب عمراً” ويتوقفون، بدلاً من ذكر الحقيقة الكاملة وهي أن “زيد ضرب عمراً لأن عمر سرق ساندوتش زيد”. وليس الكذب بالإغفال هو التقنية الوحيدة. هناك أيضاً الكذب بالإيحاء. فهم إذا ثابروا على وصف زيد بأنه ديموقراطي ونعت عمر بأنه أوتوقراطى، فسيترسخ فى عقول الناس بعد فترة أن هذه مسلمات لا شك فيها مثل زرقة السماء و خضرة الأشجار. وهناك تقنيات أخرى للكذب المحترف لا يتسع لها المجال فى هذه المقالة.

هذا لا يعنى أن أي طرف آخر سيحرز نفس القدر من النجاح إذا إستعمل هذه التقنيات. فالغرب لديه رصيد ثمين آخر يساعده، وهو ما يسمى بالقوة الناعمة. فلا ينكر أحد أن العالم الغربي يتكون من مجتمعات غنية جميلة سعيدة و متحررة. وأغلب الناس يعجبهم النمط الغربي، و هذا يجعلهم أكثر تقبلاً للسردية الغربية. كما قال لى مرة صديق متمرس فى شؤون الحياة: “إذا كان الخيار بين ‘Mother Teresa’ بتقواها و إنسانيتها، و بين ‘Marilyn Monroe’ بجمالها و غناها و تحررها، من تظن أننى سأختار؟”

قد يتساءل القاريء: وماذا عن الدين والأخلاقيات؟ لكي نكون منصفين لا بد أن نشير إلى أن كل الأديان تقريباً تبيح الكذب والخداع إذا إقتضتهما مصلحة القبيلة أو الأمة. ولا يعاب الغرب على هذا أكثر من غيره.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫19 تعليقات

  1. Most of the big lies or even the daily lies in News and Talk Shows are fabricated in Think Tanks of Intelligence services and for the propose of brain washing People and creating main stream to promote their Merchandise.

  2. فى أحد كتب القراءة كان يدعى الغرق ويستغيث منه أثناء الاستحمام فى النهر وعندما أوشك فى إحدى المرات على الغرق فعلا واستغاث كعادته ؛ اعتبروا أنه يعبث كعادته ؛ فلم بعيره أحد انتباه حتى غرق فعلا !

  3. لا اعتقد ان كل الاديان تبيح الكذب لقبيله او ما غيره ولكن تبرير الكذب بواسطه استخدام الاديان فى تبرير الكذب هى وسيله اخرى من ضمن الوسائل التى ذكرتها حضرتك

  4. استاذنا…فقدو المصداقية بسبب تراكم المعرفة عن كذبهم….السويس.العراق.يوجوسلافيا.
    ايران..و مصر ….و طبعا أحداث سبتمبر.
    و المثير أن شبكة المعلومات….أرشيف توثيق من صنعهم….تشكل ذاكرة البشر الان….سبب انهيار مصداقيتهم

  5. الفنان الكبير العظيم
    الدكتور فريد لقد قرأت المقال الجميل بشغف واستمتعت بكلاسيكيات الماضي الجميل التي اتمني ان اعلم عنها الكثير والكثير
    ولكن اختلف معك في النصف الاخير من المقاله لانها دي كتب سماويه
    ربنا يباركك طول عمرك ذكي وعبقري وربنا يحفظ ذاكرتك وتمتعنا بذكريات الماضي الجميل 🌹❤️

  6. لقد تغير الحال بعض الشيئ… فأصبحوا يكذبون (بوقاحة) عندما يتحدثون إلينا في النسخ العربية من إعلامهم …
    ربما لان المحررين والمعدين والمذيعين من بني جلدتنا !

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى