الصيام مع هيلين…..


الصيام مع هيلين..
ـــ
تبلغ هيلين الخامسة من العمر. قبل وقت التقيت بالأمين البوعزيزي، المثقف اليساري التونسي، على مائدة غداء. تحدثنا عن أمور كثيرة، قال إنه علم أولاده الدين الإسلامي ومبادئه كي لا يخون طفولتهم ولا يغدرها. “مستقبلاً سيكون عليهم أن يختاروا الطرق التي يريدونها”، قال. قلبت الفكرة التي طرحها ووجدتها تنطوري على قيمة أخلاقية وعلمية بقدر ما. بالإضافة إلى أسباب ودوافع كثيرة قررت أن أخوض مع هيلين حواراً حول الأديان..

وهكذا صارت الحوارات تمضي، تصاعدت في اليومين الماضيين..

ـ دادي، احكي لي قصة قديمة.
ـ ممم. تعرفين النبي محمد، صحيح؟
ـ نعم أعرف النبي محمد وأعرف آخرين.
ـ حسناً كان النبي محمد محاطاً برجال رائعين، كانوا شجعاناً وينفقون الأموال على الناس، يطاردون اللصوص ويقتلون التنانين ويحررون الأميرات من الحبس.
ـ أوه، كم هو رائع. هل تعرف أسماءهم.
ـ طبعاً أعرف أسماءهم. مثلاً كان هناك رجل طيب القلب وشجاع اسمه البراء.
ـ أوه، يا له من اسم صعب. هل يمكنك أن تواصل الحكاية مستخدماً اسماً ألمانياً، لا أستطيع نطق هذا الاسم.
ـ حسناً، كان اسمه “دافيد” [هكذا يلفظ الألمان اسم ديفيد]
ـ شكرا دادي، اكمل القصة.
ـ في يوم خرج دافيد عليه السلام ورأى نساء حول بئر ما، كن فزعات. ذهب دافيد عليه السلام وقتل الأفعى وملأ جرار النساء.
ـ أوه، رائع دافيد هذا. لكنه لم يصب بأذى، أليس كذلك؟
ـ أبداً، لم يصب بأي أذى. دافيد كان شجاعاً وذكياً، وكان أيضاً يحب الشعر والرياضيات.
ـ أنا أيضاً أحب الرياضيات. هل شكرته النساء؟
ـ في الواقع لا، في بلادنا لا تشكر النساء الرجال على ما يفعلونه لهن.
ـ ماذا؟ أنت تمزح.
ـ أنا لا أمزح. انصرف دافيد بسرعة، كان يعلم هذه الحقيقة.

في اليوم التالي جاءت ونحن نجهز الإفطار في الثامنة مساء.
ـ دادي، ماذا تريد أن تفعل؟ ستأكل الآن؟ الشمس لم تغب بعد.
ـ ولكنها غابت في بلاد أمي.
ـ ولكنك لست في بلاد أمك.
ـ أنا أصوم وأفطر مع أمي.
ـ أوه، ظننت أن الصيام ينتهي بغياب الشمس.
ـ غابت الشمس يا حبيبتي في بلاد بعيدة، ونحن مع تلك البلاد.
ـ طيب، هل تأذن لي بسؤال.
ـ تفضلي
ـ كم عمر الله؟ Wie alt ist der Gott
ـ أوه، هذا سؤال كبير يا هيلين. الله قديم، ليس له عمر
ـ ما معنى إنه قديم؟ لا بد أن يكون له عمر.
ـ لا يمكنني تحديد عمر لله، قديم جداً قبل الزمن.
ـ ألف مليار سنة؟
ـ أكثر من أي رقم تتخيلينه.
ـ ألف ألف ألف ألف مليون مليار.
ـ أكثر من ذلك
ـ يبدو أنك تتحدث عن الديناصورات.
ـ لا، أنا أتحدث عن الله.
ـ ولكن الله لم يكن يوجد في زمن الديناصورات.
ـ بلى كان هناك، في الواقع هو الذي خلقها.
ـ خلق الديناصورات؟
ـ نعم.
ـ ولماذا خلق أشياء مثل الديناصورات، بماذا كان يفكر؟
ـ لا أدري، هذه أسئلة يستحسن أن تلقيها على أمك.

وقت المغرب قلت لها:
هيا بنا نصلي.
قالت: لا، سأتفرج على مسلسل الأمير الصغير.
ـ لا، تعالي نصلي. تريدين أن تحصلي على محبة الله؟ تعالي نصلي.
ـ سيحبني إذا صليت؟
ـ بالطبع.
ـ أوه، غريب هذا الأمر. لكن هيا سأصلي معك.

[وقفت إلى جواري وقالت: عليك أن تردد الكلام وأنا سأقوم فقط بالحركات، لا أستطيع نطق الكلام العربي]

ـ حسناً صغيرتي.
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
[قاطعتني غاضبة]
Auf deutsch Dady أرجوك، بالألمانية.
قطعت الصلاة ضاحكاً، جلست إليها وقلت: حبيبتي لا أعرف الصلاة بالألمانية.
قامت ببعض الحركات وبعد مضي دقيقة راحت تهز بنطالي وهي تقول: اسمح لي بالمغادرة، أشعر بالملل.

اليوم، بعد العمل، كنا ذاهبين لشراء شيء يخص منزلنا. كانت أمها تقود السيارة وهي إلى يمينها، وأنا في الخلف. راحت هيلين تتحدث بثقة عن الصيام:
من حق الأطفال أن يأكلوا قليلا، وأن يشربوا. الكبار لا. الأطفال سيبكون بعد عشر دقائق إذا منعنا عنهم الأكل. ثم صمتت قليلا وأعادت جملتها الشهيرة: Dady ich eine Frage an dich .. داي، دعني ألق عليك سؤالاً.
ـ تفضلي.
ـ لماذا هناك ناس؟
ـ ماذا تقصدين؟
ـ من صنع هؤلاء الناس، ولماذا صنعهم؟
ـ الله هو من صنعهم، في الغالب. أما لماذا فعل ذلك فما عساي أقول لك. ربما لكي يجعلوا هذه الأرض مكاناً جميلاً.
ـ لا أعتقد ذلك
ـ ماذا تريدين أن تقولي؟
ـ أعتقد أنه خلق الناس هكذا، قرر أن يخلقهم وخلقهم.
ـ ممم، احتمال. لكنني لا أعتقد أنك ستفعلين أشياء كبيرة لمجرد أنك تحسين بالملل.
ـ Doch بلى
ـ هذا شأنك. الآن خبريني هل أنت صائمة؟.
ـ أنا صائمة.
ـ وخبزة الحليب التي في يدك؟
ـ هذه؟ هذه شيء عادي، أكلت منها قطعة بسيطة لكي أحافظ على صيامي.
ـ يالها من فكرة.

هكذا تدور النقاشات، بهذه التفاصيل مع هيلين الطفلة. ولا بد أن لكل واحد منكم، الآباء تحديداً، قصصاً مشابهة. لا توجد زيادات درامية أو فنية في الحوارات التي ذكرتها. على العكس من ذلك، جرت بالألمانية، بتعقيداتها ودقتها، وكان أكثر طرافة..

م. غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version