كتّاب

السبوع المصرى وبؤس العقيقة البدوية…


السبوع المصرى وبؤس العقيقة البدوية
والحرب على الثقافة المصرية
الغناء والموسيقى مكون أصيل من مكونات الثقافة والوجدان المصرى ولا أظن أن هناك مصريا أو مصرية لا يحب الموسيقى والغناء ولا يطرب لهما مع الاختلافات التى تعد أمرا طبيعيا فى موضوع يتميز بطبيعته بالثراء والتنوع، فهناك من يعشق عبد الوهاب ولا يعدل به فنانا آخر، وهناك من يضع أم كلثوم قبل عبد الوهاب، أو من يفضل قديم أم كلثوم على حديثها، وهناك من يذوب فى شرقية وشجن فريد الأطرش، أو فى انطلاق وعذوبة عبد الحليم، وقل مثل ذلك على كارم محمود وعبد المطلب وقنديل ورشدى ومحرم فؤاد والتلبانى والعطاروغيرهم، أو عن نجاة وشادية وفايزة وصباح ووردة وأحلام وفايدة ونازك وسعاد محمد وغيرهن.
ورغم كل هذا استيقظنا ذات يوم – فى زمن أغبر – على من يسب ويلعن سنسفيل هؤلاء جميعا ويعدهم بالويل والثبور والقرار فى الجحيم من فوق منابر الحكومة ووزارة أوقافها ومتقاضيا مرتبها، لانهم من مجهة نظرة مجرد مثيرين للفتن والغرائز والشهوات ويدعون الناس لاقتراف الآثام وفعل الحرام، وأن الموسيقى والغناء حرام شرعا
وقل مثل ذلك على الطقس المصرى الصميم “السبوع”
الاحتفال بسبوع المواليد عادة مصرية عميقة وعتيقة وثرية وجميلة، يحرص عليها المصريون جميعا على اختلاف طبقاتهم وثقافاتهم وأديانهم، وهو احتفال محمل بالكثير من الرموز والدلالات التى أبدعتها الحضارة المصرية، فرقم سبعة فى السبوع يشير إلى أيام خلق الأرض، وقيامة أوزوريس فى اليوم السابع، وسبع إلهات رفيقات حتحور، وسبع عازفات موسيقيات، ومن هنا انطلق رقم سبعة إلى مختلف الثقافات، فبعد ميلاد المولود، ينبغى تنفيس الأم بوجبات ثرية دسمة، تحتل فيها الفرخات “الشمورت” مكانة كبيرة، وتشجع الأم على الأكل لتشغل فى بطنها الفراغ الذى كان يحتله الطفل، وتصر مشيمة المولود فى منديل من القماش وتأخذه صبية لتلقيه فى النيل كنوع من الشكر لأوزوريس العظيم إله الخصب وواهب الحياة، وكأننا نشكره على عطيته بإلقاء المشيمة الفارغة إليه فتدعوه لملاها من جديد,
وفى اليوم السابع تكون العائلة قد اطمأنت على سلامة الأم وأنها أفلتت من حمى النفاس، وتحممت حمومتها الأولى بعد الولادة، وأن المولود بخير وسليم الحواس، وأن عملياته الحيوية والعضوية على مايرام، واحتمالات بقائه أصبحت كبيره، وتكون العائلة قد آنست إليه وتأملته وشبهته ببعض أفرادها، ويكون قد اطمأن الأب الذى كان يريد ذكرا فجاءت أنثى احتضنها وقبلها، واطمأنت الأم للولد الذكر إذا كانت تتمنى انثى، ويكون الوقت قد سمح للذين يرغبون فى المجاملة والهدية بتدبير أمورهم، كما يكون الوقت قد سمح للجد أو للجدة أو للأب المسافر بالحضور، وتكون أسرة المولود قد تهيأت لحفل السبوع الثرى، بشراء قلة ملونة من الفخار إذا كان المولود أنثى أو إبريق إذا كان ذكرا، والقلة هنا رمزا للوعاء الذى سيحتضن البذرة ويرعاها حتى تنبت وتخرج للنور، أما الإبريق فهو رمز لماء الحياة المتدفق من خلال “البزبوز” والذى لن يكون هناك خصب بدونه، وتكون الأم قد علقت فى خصلة من شعر المولود أو على صدرة كفا من الذهب أو الفضة أو خمسة وخميسة رمزا لخمسة الآلهم الكبار إيزيس واوزوريس وست ونفتيس وحورس، أو عين حورس أو الخرزة الزرقاء التى ترمز لعين حورس رمزا لحماية المولود من الحسد، وتكون الأسرة قد جهزت ماسيمنح للحاضرين من “علب” صغيرة تتراوح خامتها بين الفضة عند الأسر الثرية التى اشتاقت للولد والتى تحتوى على مكسرات وشيكولاته ثمينة، حتى تصل إلى مجرد كيس بلاستك فى الأسر الفقيرة يحتوى على فشار وحمص وسودانى، مرورا بعلب من الصينى والفخار، يوضع فيها أو يكتب عليها اسم المولود وتاريخ ميلاده، وعبارات طريفة مثل: أنا جيت نورت البيت
وعصرا يكون قد وصل معظم الراغبين فى الحضور، فيهنئوا ويباركوا ويمنحوا المولود “نقوطهم” – تبعا لمكانتهم الاجتماعية أو ماعليهم من مجاملات سابقة – وتتراوح نقوط المولود بين خاتم من الذهب للذكر وحلق للأنثى، أو أموال، أو شهادة استثمار، أو ملابس وأحذية
وبعدها تشرع الجدة للأم أو للأب أو الداية، فى البدء بمراسيم “السبوع” فتطلق البخور الذى يطرد الأرواح الشريرة، ويرش الملح الذى يصيب الأعين الحاسدة فيعطلها عن النظر والحسد، ويوضع الطفل فى الغربال وتخطو فوقه الأم جيئة وذهابا سبع مرات مع إطلاق الدعاء والرقى، وتلقى فى أرجاء المكان كبشات من الحبوب السبعة “قمح- شعير – حلبة – عدس – حمص – فول – ترمس ” ولم يكن من بينها الأرز الذى لم تعرفه بلادنا إلا فى العصور الوسطى، وترمز البذور هنا إلى أن المولود هو بذرة الحياة، ثم يغربل المولود فى الغربال رمزا لتخليصة من الخلق السئ والعيوب كما تغربل الحبوب لتخليصها من الشوائب والحبوب الدخيلة، ثم يدق الهون والذى يهدف إلى تنبيه سمع المولود وإلقاء التعليمات الضاحكة إليه: إسمع كلام جدتك وما تسمعش كلام جدك،.. ويدلى هنا كل من يحب بدلوة.. ثم يدحرج الغربال نحو باب الخروج من البيت رمزا لخروج من لانرغب فى وجودهم، وفى الأصل المصرى القديم كانت إنثى فرس النهرتظل إلى جانب المولود لرعايته طيلة الأيام السبعة يصبح عليها الرحيل بعدها وإلا آذت المولود، ثم يصحب الأطفال حاملى الشموع الأم التى تحمل وليدها وهم ينشدون: حلقاتك..برجالاتك.. حلقة ذهب فى وداناتك..يارب ياربنا تكبر وتبقى قدنا.
هذه هى طقوس “السبوع” المصرية الثرية والبهيجة والمحملة بالمعانى والرموز والدلالات، وبالطبعى تسعى عبقرية الثقافة المصرية للحافظ عليها عبر الأجيال من خلال غربلتها حتى تتسق مع تغير ظروفهم وعقائدهم وأزمانهم
ورغم هذا فقد استيقظنا ذات يوم – برضه – لنجد من يدعونا لاستبدال العقيقة بذلك الطقس الثرى والعميق، بحجة أنه حرام دون أن يبين لنا أحدهم ماوجه الحرام ولا أظن أن أحدا ممن يرونها حرام يعرف تلك الدلالات العميقة التى أشرنا إليها ومن هنا فإننى أظن أن المستهدف فهو الثقافة المصرية والروح المصرية والتميز والخصائص المصرية.
والعق يعنى الذبح والعقيقة تعنى ذبح كبش للذكر أو شاة للأنثى وعمل طعام من الثريد للأهل والفقراء، وهى عادة جاهلية أقرها الإسلام وحسب، ولاحظوا طبعا أن المصريين فى غالبيتهم لا ينطقون حرف القاف، بل ينطقونة همزة أو جيم، إنها الحرب على الثقافة المصرية ولكن الثقافة المصرية ستبقى.
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫38 تعليقات

  1. مصر وبعدها التاريخ أرضها منذ البدء قديمة وأهلها ثابتين عليها من الأزل واى قادم اليها تذيبه فى بوتقة ثقافاتها لأن جيناتها ضاربة فى القدم واصيلة فى كل المصريين فلا تقلق .. ياما دقت على الراس طبول ❤️❤️❤️

  2. ما أروع، حبيبي كمال. أول ما سمعت بهذه “العقيقة” كان في أمريكا من طلابي المسلمين، وكانوا يتعجبون من جهلي بهذا التقليد الإسلامي ويتشككون في أني مسلم. وكنت أسخر منهم وأسميها “العقيقة المرة”. شكرا على شرح رمزيات السبوع ولعل الله يفتح على يديك عقولا مغلفة.

  3. شكرا لكل المعلومات الثرية و القيمة من استاذ نعتز بثقافته المصرية و تعيش و تعلمنا يا معلم الاجيال .. احب اقول لحضرتك انا عشت هذه الأحداث بل و عملتها لابنائى..
    ربنا يزيدك نعمة يا صديقى الغالى 💖

  4. تأريخ التراث ، ودحض الوافد وما افاضت به الوهابية وإرث السبعينات . رائع كعهدنا بك دوما دكتورنا القدير . اشكرك واشكر صحبتك الجميلة وادعو الله ان نسعد بها قريبا ..

  5. عدت وعاد فكرك الاصيل وقلمك المبدع يا دكتور كمال ..افتقدناك ..والحمد لله علي العودة ..وللاسف فإن العقيقة اصبحت امرا واقعا بعد كل هذه السنين والمطلوب الان حماية ارثنا الثقافي والحضاري الكبير ..

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى