كتّاب

الرقص فى الثقافة الشعبية المصرية ( 2 من 2):…


الرقص فى الثقافة الشعبية المصرية ( 2 من 2):
كانت للراقصات فى المعابد الفرعونية وفى قصور الحكام والخلفاء نظام دقيق، يقوم عليه أسطوات وعوالم، وكانت للراقصات فى زمن المماليك نقابة تنظم أمورهن وتدافع عنهن، وتأخذ من أجورهن الضرائب المقررة، وبقضاء محمد على على المماليك بعد مذبحة القلعة (1811) فإن عشرات الراقصات والمغنيات قد خرجن من قصورهم إلى الشوارع للبحث عن رزقهن بما يمتلكنه من مهنة ومهارة، واستقر الكثير منهن فى شارع محمد على فهو فى المنطقة الوسطى بين القاهرة الخديوية الحديثة بمسارحها وملاهيها وسكانها الإفرنج والأفندية، وبين القاهرة الفاطمية بتجارها التقليديين وموالدها، وهكذا أصبح شارع محمد على لصيق بمهنة الرقص والغناء والمهن المرتبطة بهم كصناعة أدوات الموسيقى والتعليم عليها، وفيه دارت أحداث فيلم “شارع الحب” لعز الدين ذو الفقار، ومسرحية “شارع محمد على” لمحمد عبد العزيز
ومع النقلة النوعية التى أحدثها الخديو إساعيل للقاهرة ثقافيا وماديا وإعلاميا راحت أسماء الكثير من الراقصات تذيع ويرتفع شأنهن بما يجنوه من ثروة وما يحكى عنهم من حكايات مثل: شفيقة القبطية وبمبة كشر التان رقصتا فى أفراح الخديو واقتنتا القصور، وركبا عربات تجرها الخيول وأمامها “الأمشجية” الذين يفسحون لهم الطريق، ومثل بديعة مصابنى التى تزوجت نجيب الريحانى لبعض الوقت وكان لها الكازينو الخاص بها والملاصق للكوبرى الواصل بين الجيزة والجزيرة وأطلق عليه “كبرى بديعة” وتغير بعد الثورة إلى كوبرى الجلاء
وقد أدخلت تلك الراقصات إلى الرقص طرائق جديدة فمنهن من ترقص برشاقة وهى تحمل شمعدانا ثقيلا، أو من ترقص وعلى راسها صينية عليها أكواب ممتلئة، أو قلة من الفخار، ومن تستطيع أن تميل إلى الخلف حتى تصنع من جذعها القبة وهى لا تتوقف عن الرقص، أو من تثنى ركبتيها حتى تنام على ظهرها وهى لا تتوقف عن الرقص أيضا، أو تجيد استخدام الصاجات فى تجميل الإيقاع.
وإلى مثل هؤلاء الراقصات تنسب حكايات عجيبة، فمنهن من كانت تركب عربة تجرها ثمانية خيول لتتفوق على عربة الخديو التى تجرها ست خيول فقط، ومنهن من كان يتسابق عشاقها من الباشاوات الأثرياء لشرب الخمر فى حذائها، أو يشعلن لها السيجارة بورقة العشر جنيهات، ومنهن من تزوجت الابن الوحيد لهدى شعراوى التى رفضت – رغم قيادتها للحركة النسائية – أن تعترف بحفيدها من تلك الراقصة، ومنهن “جليلة” التى هام بها سيد درويش حبا وصاغ لها أجمل ألحانه، حتى أكتشف إنها إمرأة لعوب فهجاها هجاء مرا فى لحنه “الصاغة”: أما بقى سادس دكان /استنى عنده يا ابو القمصان/بيقولو مرة عمل خلخال ينفع ركاب لتلاتة بغال/ سألت مين لبسته يا عيال/ قالو جليلة أم الركب”
وبعد ثورة 1919، وازدهار المسرح الغنائى، وظهور السينما وتصدر الأفندية للمشهد السياسى والاجتماعى ظهرت مجموعة جديدة من الراقصات اللاتى يتميزن بالثقافة والرشاقة والجمال فى نفس الوقت مثل: تحية كاريوكا وسامية جمال وببا عز الدين ونبوية مصطفى ونعيمة عاكف، والتى ساعدتهن مؤهلاتهن تلك للانتقال بسرعة من عالم الكازينوهات إلى المسرح وإلى السينما، ويقترن بفانين كبار ويصبحن من سيدات المجتمع الراقى
وكان من الطبيعى أن تستفيد السينما من شهرة تلك النجمات الراقصات فتصنع مجموعة من الأفلام التى تعتمد على رقصهن أو على أسمائهن الرنانة مثل: لعبة الست وشباب إمرأة وخلى بالك من ززو لتحية كاريوكا، وتعالى سلم وحبيب العمر وعفريته هانم لسامية جمال، ولهاليبو وفتاة السيرك وبلدى وخفة وتمر حنة لنعيمة عاكف، وكان لأنور وجدى الفضل فى اكتشاف الطفلة الموهوبة “فيروز” التى برعت فى التمثيل والرقص والغناء وتقليد الراقصات الكبار فى فيلم دهب، بلإضافة إلى راقصات محترفات انتقلن للسينما لشهرتهن فى الرقص كسهير زكى وزيزى مصطفى وهياتم.
وهناك فنانات لعبن الأدوار كلها رقصا وتمثيلا وغناء: مثل لبلبة ونيللى وشيرهان.
وهناك العديد من الأفلام التى تناولت حياة الراقصات مثل: شفيقة القبطية وبمبة كشر وامتثال وكلهم من إخراج المخرج الكبير حسن الإمام الذى كان مولعا بالراقصات وعوالمهن المثيرة.
ومع المد الوطنى بعد ثورة يوليو والسعى لاستثمار قيمة الرقص فى القضايا الوطنية وإحياء انماط الرقص الشعبى – صعيدى وبحراوى وبدوى – شكل الأخوين على ومحمود رضا سنة 1959 فرقا رضا للفنون الشعبية اتحفتنا بفيلمين: الكرنك وأجازة نص السنة، كما شكلت وزارة الثقافة بعدها الفرقة القومية للفنون الشعبية.
وهناك ممثلات برعن فى الرقص وهن يلعبن أدوارهن فى الأفلام ففضلا عن ماسبق ذكرة، برعت نبيلة عبيد فى فيلم رابعة العدوية والراقصة والطبال، كما برعت نادية الجندى فى فيلم خمسة باب، وسعاد حسنى فى الرقص فى فيلم خلى بالك من زوزو وفى فيلم شفيقة ومتولى، وبرعت هند رستم فى فيلم إنت حبيبى، وبرعت نادية لطفى فى فيلم السكرية وأبى فوق الشجرة، وسهير المرشدى فى فيلم البوسطجى، كما برعت ميرفت أمين برقصة بارعة فى فيلم نغم فى حياتى، وإلهام شاهين فى فيلم الصديقتان، ومنة شلبى فى فيلم الساحر.
ولم يتأخر الرجال عن الرقص أيضا فى أفلام عديدة: فقد رقص “شرفنطح” رقصة رائقة فى فيلم فاطمة حاملا كرباج العربجى وأم كلثوم تغنى “نصرة قوية وفرحة”، كما رقص محمود شكوكو فى فيلم عنتر ولبلب، وتوفيق الدقن فى فيلم الفتوة، ورشدى أباظة فى فيلم الزوجة 13، وفؤاد المهندس فى فيلم أخطر رجل فى العالم، وسمير غانم فى فيلم أميرة حبى أنا، ومحمد سعد فى معظم أفلامه، وقد شهدت فى شبابى رقصة بارعة للفنان القدير بدر نوفل فى مسرحية بين القصرين بالأبيض والأسود.
ويبدوا أن بعض الراقصات قد تجاوزن الحدود فى كشف المستور من مفاتنهن وأجسادهن المثيرة، وأرتدين بدلات للرقص تظهر أكثر مما تخفى، وهو ما ألجأ حكومة ثورة يوليو لتحديد مواصفات بدلة الرقص فى القانون رقم 430 لسنة 1955، وهو القانون الذى أعدته مصلحة الفنون – إبان رئاسة الأديب يحيى حقى لها – والتابعة لوزارة الإرشاد القومى، ويلزم الراقصة ببدلة تغطى الصدر والبطن، وأن تكون بلا فتحات جانبية ونصفها الأسفل يغطى الساقين، وقد استبدل تغطية البطن بوضع نجمة على السُرة.
وإزاء استمرار الطلب على الرقص والراقصات رغم تغير الظروف، فقد سعت نجوى فؤاد منذ عقود لفتح مدرسة لتعليم الرقص الشرقى للفتيات، وفتحت بعدها مدارس يتولى التدريس فيها رجال بارعون فى الرقص وتقليد غالبية راقصات مصر الشهيرات، ولكن يبدو أن موجات المد السلفى والإخوانى المتطرف قد حال دون استمرار تلك المدارس، وهو ما فتح الباب أمام هجمة هائلة من الراقصات الروسيات والأوكرانيات وغيرهن من بلاد أوربا الشرقية سادت كازينوهات الكثير من الفنادق وخاصة فنادق شواطئ البحر الأحمر.
ورغم هذا سيظل للرقص الشرقى للفتيات المصريات سحر خاص وألفة نادرة ورباط وجدانى صاغته القرون منذ فجر التاريخ.
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫16 تعليقات

  1. مقالة، موجز تاريخ الرقص الشرقي….
    موضوع شيق ومثير للاهتمام كانت هوليوود لتنتج عنه مسلسلات وأفلام لا حصر لها.. وتُبقي الوعي العام مدرك لأهمية جزء من ثقافتنا حيًا، تشجعهم للدفاع عنه وعدم التفريط به…
    للأسف كيف تحول الرقص الشرقي اليوم، تسمعهم يقولون هز البطن..ساق***ات… مخد**** ات… تبيع جسدها…. بنت شارع وغيرها من الأوصاف المهينة للإنسان

    للمفارقة، الاسبوع الماضي كنت معزومة على الغداء في إحدى المنتجعات الفخمة في البحرين وكان هناك راقصة تبدو من أوروبا الشرقية.. رقصها ولا سامية جمال… بعيد عن الخلاعة والإثارة… متعة للنظر… ذات جمال لافت ورشاقة لا تُضاهى… دخلت علينا كفراشة صيف ترفرف جمالًا وبهجة تُنسيك هموم الحياة.

    صحيح اسمه رقص شرقي، لكن لا علاقة لنا به ولا نعرف ماذا نريد منه..!!!!

  2. سلم قلمك لقد كفيتني مؤنة كتابة هذا الموضوع تحديدا فكنت اقدم قدم واؤخر اخري لاني عشت فترة طويلة في شارع محمد علي وكانت مدرستي هناك, فضلا عن وجود بعض المحافظات التي اشتهرت بتصدير الراقصات الي القاهرة , كنت اود ان تسلط الضوء علي زوبة الكلوباتية وسيدة العمشة وغيرهن في شارع محمد علي

  3. بجد بوست جميل وتسلم ايدك وافكارك وقلمك ..شكرا يا دكتور على هذا السرد الرائع حول الرقص الشرقى ..وكيف آل اليه الحال بعد انتشار ثقافة التطرف وافكار التحريم ..ولكن مازالت كل البنات تقريبا يمارسنه فى الاحتفالات الخاصه والمناسبات باعتباره فن يجلب البهجه و يشيع السعاده ..

  4. مقالة عظيمة. الٱن نحن نفتقد الفرح والبهجة وربما لهذا السبب نجد أنفسنا نشاهد الأفلام القديمة والأجنبية لأن الابطال فيهم صدق وحياة ورقى وإنسانية
    أما الآن فمن ترقص فى فرح من الفتيات الصغيرات قد تجد نفسها فى اليوم التالى مرفودة أو على السوشيال مبديا أو متطلقة من زوجها إذا كانت متزوجة أو يقوم عليها و يسحقها أراء متعددة وبدلا من أن ترقص فرحة للحياة فى النهاية تمارس الرقص مع الذئاب وتدافع عن حقها فى البهجة والفرح لأختها أو صديقتها
    سلمت يداك يادكتور

  5. حقيقي ممتعة هي كتاباتك وشروحاتك ولأنك مثقف موسوعي تكتب في وعن كل شئ، بل قل مبهرة هي سردياتك، الرقص كتبت عنه كثيرا يوم تربصوا للسيدة التي رقصت على مركب، فأمطروها بوابل من السخافات
    حتى رفدوها
    أذكر أيضاً جموع الراقصات واللاتي كن يظهرن بأفلام زمان واللاتي يرافقن المطربين أندهش لملامحهن والتي لا ترقى لمهنة الرقص ، حتى بمجاميع ، فأشكالهم ليست بها مسحة جمال وأجساد بها بروز مُلفت بإلية وأرداف كبيرة، وبكروش ، وإذا مررنا على بعض المواقع سنجد راقصات بهكذا توصيف موزعات على أغلب الافراح بالأحياء الشعبية تحديداً

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى