كتّاب

الرقص فى الثقافة الشعبية المصرية (1 من 2):…


الرقص فى الثقافة الشعبية المصرية (1 من 2):
الرقص قديم فى مصر قدم الحضارة المصرية نفسها، فقد وجدت فى حفريات ماقبل التاريخ – نقادة ودير تاسا ومرمدة بنى سلامة – أدوات موسيقية وتماثيل من الفخار لنساء ثقيلات الصدور والأرداف وهن يرقصن.
وتذخر جدران المعابد والمقابر فى ظل دولة الفراعنة – قديمة ووسطى وحديثة، وإن كانت فى الحديثة أكثر ثراءا بالطبع – بمناظر الرقص الذى تصاحبه نحو ثلاثمئة آلة موسيقية ومغنى أو مغنية، أوممسكات بالصنج والشخاليل، كما يشير كتاب وصف مصر، وتتعدد أشكال وأنواع تلك الرقصات فهناك الرقص الفردى المثير والرقص الثنائى والرقص الجماعى وهناك رقص الرجال أيضا، وكانت فرق الراقصات تذخر بهن المعابد وقصور الحكام، وكانت لهن معلمات معتبرات، وغالبا ما كانت الراقصات تكشفن الكثير مما كان ينبغى أن يستر إذا رقصن فى محيط من النساء
وفى الأصل فإن لغة الجسد Body language”” قد سبقت لغة التعبير والكلام بعشرات القرون، فمن خلالها عرف الإنسان التعبير عن الحب والشوق والرغبة والحنان والخوف وغيرها، وفى تمثيليات المحاكاة السحرية التى كانوا يحاكون بها عمليات الصيد والقنص فإنهم كانوا بأجسادهم رجالا ونساءا يرقصون رقصات تعبر عن الهجوم والانقضاض والظفر، كما كانت تلك اللغة وسيلة للتعبير عن لوعة الفقد والحزن
كما كات لغة الجسد تلك جزءا من العمل فى الحقول وفى عجن العجين ومختلف العمل المنزلى وأعمال المهن والصناعات المختلفة.
أنا لا أحاول فى تلك المقدمة الحديث عن تاريخ الرقص، وإنما فقط التأكيد على أن الرقص عميق وقديم فى ثقافتنا المصرية،
وقد استمر الرقص فى مصر بعد انتشار المسيحية والإسلام – على الرغم من اختلاف مواقف الفقهاء والكهنة منه – فقد كانت قصور الخلفاء والحكام تعج بالعازفات والمغنيات والراقصات والعوالم، مثل الراقصة والمغنية وضاربة الطبل “نسب الطبالة” التى ذاع صيتها زمن الخليفة الفاطمى المستنصر، ووهبها تلك الأرض التى عرفت بها بحى الفجالة ” أرض الطبالة”، كما انتقل الرقص إلى فرق الصوفية وأذكارها، كذكر الطحاوية الذى يضم فيه الزراعين إلى الصدر، وينثنى فيه الراقصين إلى الأم والخلف، وكذكر الأولياء الذين يدورفيه الذاكر إلى اليمين واليسار درات تتسارع مع تسارع الإيقاع حتى يصل إلى مرحلة “الجذب” التى يذهل فيها عما حوله، وكنت أرى فى صباى النساء يصنعن لهن صفا جانبيا فى حلقات الذكر تلك، وهناك رقص المولوية الذى يرتدى فيه الراقصين تنورة ملونة تشير إلى الفلك الدوار ويدورون هم رافعين كفهم الأيمن إلى أعلى بينما يشير كفهم الأيسر إلى الأرض وكأنهم يأخذون بيمناهم كرم الله وعطاياه لتمر عبر يسراهم إلى الأرض. كما يعد الرقص فى حفلات الزار أحد الطقوس الأساسية والذى تتسارع وتيرته مع تسارع دق الدفوف وارتفاع صرخات “الكودية”.
وقد استمر الرقص فى مختلف القرى والبلاد والمدن والأحياء الشعبية كتعبير عن الحرية والبهجة والسعادة، ويكفى أن تجتمع مجموعة من الفتيات، – كالبنات فى فصول المدرسة الإعدادية والثانوية إذا ماكان المدرس غائبا فما بالنا بغرفهن فى بيوتهن – حتى يأخذن فى التبارى بالرقص، وتقييم بعضهن بعضا وتحديد مناطق المهارة فى الرقص الثرى
وتعتبر “الدربكة” أو الطبلة أهم الآلات التى تعتمد عليها الراقصة “على واحدة ونص”، كانت تصنع قديما من الفخار وجلد الماعز، أما اليوم فأصبحت أكثر اتقانا تصنع من مواد بلاستيكية، وكانت الطبلة الصغيرة التى تباع فى الموالد والأسواق أحد الهدايا التى تسعد بها البنات الصغيرات
والرقص فى أفراح الأسر المتوسطة والفقيرة كان هو الفقرة الأساسية فى حفلات زواجهم ” خطوبة وشبكة وحنة ودُخلة “، فهو يشيع حالة من التفاؤل والبهجة، والتنافس اللذيذ بين الفتيات، وهو نوع من النقوط أيضا من صاحبات العروس، وهى فقرة مجانية إذا قورنت بالاتفاق مع راقصة محترفة أو مغنى، وأستطيع أن أقول أن جميع فتيات مصر يجدن الرقص ويفخرن بذلك، كما تفخر الآباء والأمهات بذلك – طبعا أتحدث عن مصر قبل أن تلوثها ثقافة البدواة والسلفية والكراهية للفن والجمال – وأنا أعرف أمهات مثقفات ومتعلمات كن يدربن بناتهن على الرقص، بل ومنهن كانت تعد لطفلتها بدلة بهيجة للرقص، وعرفت فتيات متعلمات تعلمن فى أوروبا كن يفخرن بإشادة الأجانب بالرقص المصرى، ويقدمن لهم وصلة رقص شرقى رائعة فى حفلات الجامعة، وخاصة بعد أن أمكن من خلال الكمبيوتر أن تستدعى أى فتاة المقطوعة الموسيقية الشعبية، التى تفضل الرقص على أنغامها، ويكون اختطاف الفتاة لإيشارب أو طرحة وشال صديقة إيذانا برقصة واعدة، وغالبا ما تعقده الفتاة فى وسط ردفيها فهو يبرز حركتهم جيدا، وتعتبر المهارة فى تحريك وهز الأرداف والصدور أهم أجزاء الرقص والراقصة، ومع هذا تبرع كثير من الفتيات فى تحريك معظم عضلاتهن: فى الرأس والشعر والرقبة والذراعين والأكتاف والوسط والبطن والسيقان كما تعتبر النظرات وتعبيرات الوجه أحد أهم أجزاء الرقصة والرسائل التى ترسلها من ترقص لمشاهديها، وطبعا تختلف شكل الرقصة تبعا للعمر والحالة الاجتماعية والثقافة الأسرية وحالة حلقة الرقص، فكلما كانت الفتاة من أسرة متفتحة أو غير متزوجة أو فى حلقة رقص تحضرها الفتيات فقط فإنهن يخرجن أكثر ماعندهن من فتنة ومهارة، بينما يتحفظن بعض الشئ حين يحضر الحلقة الصبيان والرجال، أو حين تكون متزوجة رجلا محافظا، أو حين تكون أما فإنها تكتفى بتحريك ذراعيها ورأسها وبالميل بجزعها كله، وإن كانت الأم تخرج عن هذا الوقار وتبدع إذا كانت فى فرح أحد فلذات أكبادها
والذكور أيضا يرقصن صغارا وكبارا وإن كنت لا استطيع أن أقول كلهم كما قلت كلهن عندما تحدثت عن الفتيات، وإن كان القليلين منهم من يحاولوا منافسة رقص الفتيات أو تقليدهن كما يرقص سعد الصغيًر مثلا، وكثير منهم من يفضل ربط الحزام وإن كان حول وسطه لا ردفيه، وبعضهم من يفضل الرقص بالعصا لا بهز الوسط، وفى صباى رقص عم إبراهيم سيد أحمد وهو فلاح خشن فى أحد أفراح إخوتى رقصة رائعة بهرتنا جميعا لما يزيد على نصف الساعة.
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫20 تعليقات

  1. روعه البوست مفكرنا الراقي بجد مقاله في غايه الجمال الرقص وأهميته في الحياه ونبذة قصيره عنه وكيف أن اجدادنا العظماء كانوا يرقصون تسحبون الحياه كل سنه وحضرتك طيب وبخير وسعاده

  2. الرقص دلالة على الفرح و التحطيب فرح وأول فيلم عربى حضرناه فى السينما مع بابا غرام فى الكرنك وكنا اطفال صغار وخرجنا من السينما على كورنيش النيل وقلدنا رقصة لقصر بلدنا وكلما رأيت هذا الفيلم انتابنى حالة من البهجة والسعادة سلمت يداك يادكتور

  3. الرقص نشاط إنسانى قديم قدم تعبير الإنسان عن ذاته وعن علاقته بالعالم وبقوى الطبيعة وبالسماء فالرقص أيضاً ارتبط بشعائر الإنسان الدينية منذ ماقبل فجر التاريخ عندما كان الإنسان يمارسه ليطرد الأرواح الشريرة ومابعد فجر التاريخ عندما كان جزءا من الشعائر الدينية فى المعابد .. واشارتك لحلقات الذكر أشارة ذكية فالتعبير الجسدى فى حلقات الذكر امتداد لعلاقة الرقص بالدين ..

    ولازال الرقص يمثل علاجا نفسيا يصفه الأذكياء من الأطباء النفسانيين لمرضاهم

    وهو راسخ فى التكوين الشعبى المصرى ورغم التجريم والتجريم المقترن بفترات الإنحطاط الثقافى التى نعيشها ارتباطا بانحطاط الأحوال الاقتصادية والاجتماعية رغم ذلك مازال المصريون ينتهزون فرصة مناسبات الخطبة والزواج لممارسة هذا النشاط التعبيرى الجميل ..

    تحياتى لقلمك الذى أصل للمسألة تأصيلا علميا تاريخيا

  4. مقالة رائعة ولمحات جميلة عن وجود الرقص وبالتالي الاحساس بالايقاع الموسيقي على مدى العصور ، شكرا يا كمال على المقالة التلقائية والثقافية .

  5. مقال رائع بل بحث رصين ..أتمنى تدريسه في مدارسنا فهو كفيل بزرع البهجة في عقول اولادنا واجتثاث التطرف من جذورة .
    تحياتي أستاذنا المبدع

  6. أرى يا دكتور كمال أن ثقافة الرقص منتشرة في كل دول العالم شماله وجنوبه وشرقه وغربه، وليس في مصر فقط..ولكن ما لفت نظري في تحليلك لفن الرقص المصري، وتركيزك فقط على ما نطلق عليه في مصر “الرقص الشرقي”، ولم تشر فيه إلى أنماط الرقص الشعبي في مناطق مصر المتباينة الثقافات.. كأنماط رقص فلاحي الدلتا، ورقص السواحلية (على تباينه بين المدن الساحليه وبعضها البعض)، ورقص أهل الصعيد، وكذا أهل النوبة، وأنماط الرقص البدوي..فنماذج الرقص كثيرة تلك التي تعبر عن ثقافة المجتمعات المحلية والعلاقات الاجتماعية بها.. في انتظار مقالك الثاني الذي سيمتعنا بتحليلاتك المتعمقة الرصينة للعديد من ملامح هذه الأنماط الثقافية الشعبية المصرية

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى