الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٨…


الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٨

ربما تركت الحلقات السابقة إنطباعاً أن البعثة الدراسية إلى روسيا كانت كلها ورد و ياسمين – تعليم جاد و على مستوي عالى؛ و فى أوقات الفراغ رقص و ڤودكا و صداقات مع طالبات معهد الطب رقم ١. هذا حدث فعلاً، لكنه لم يكن كل شيئ.

كنا ٢٧ طالب فى تلك البعثة، و كلنا (ما عدا واحد أو إثنين،) كنا مبعوثين لدراسة العلوم و الهندسة. المحظوظون منا هم من درسوا فى جامعة موسكو، فهذه كانت مكاناً فاخراً بأية معايير – كل طالبين أو ثلاثة كانت لهم شقة بحمامها الخاص، و كان ذلك فى مبنى شاهق فاخر بناه السوڤييت ليتباهوا به أمام العالم. و كانت فيه مطاعم و مسارح و محلات و صالونات حلاقة … إلخ. و كنت تمشى من غرفتك إلى المحاضرات والمعامل دون الخروج إلى الشارع، و هذه ميزة لا تقدر بثمن عندما تكون درجة الحرارة فى الشارع ٣٠ تحت الصفر.

أما الذين لا يحالفهم الحظ، و منهم كاتب هذه السطور، فذهبوا إلى جامعات و معاهد أخرى. بيت الطلبة الذى عشت فيه كان يبعد عن المعهد بسبعة محطات ترام يليها حوالي كيلومتر مشي على شاطئ النهر. و كان ذلك فى الشتاء أمراً مؤلما. لا أنسى مرة رأيت فيها حصاناً على ذلك الشاطئ تتدلى من أنفه سراسيب من الثلج. فقد كانت إفرازات أنفه قد تجمدت فور خروجها من فتحات الأنف.

أما بيت الطلبة ذاته فكانت التواليتات فيه بدون أبواب، و لم تكن فيه حمامات. فكنت أحتاج إلى ركوب الترام ٤ محطات للإستحمام فى حمامات عامة. من الطبيعي أن لا أحد يفعل ذلك كل يوم. و كانت الفكاهة الشائعة: “ما أجمل الإحساس بعد دش ساخن؛ لا سيما فى الثلاثة أسابيع الأولى (بعد الدش) .”

مرة خرجت من الدش فى الحمام العمومي لأجد كل ملابسى قد إختفت (سُرقت.) بعد نوبة من اللعنات و الشتائم أعطتنى السيدة العجوز التى كانت وظيفتها مراقبة غرفة تغيير الملابس عدة فوط أستر بها نفسى حتى تجيئنى النجدة. إتصلت بصديق پولندي فى بيت الطلبة لكي يجيئنى ببعض الملابس. جاء بعد ساعة و معه زفة من الطلبة يعزفون الجيتار و يقرعون الطبول، و أحضروا لى أكبر بنطلون و جاكتة عثروا عليهما فى بيت الطلبة حتى يبدو منظرى مضحكاً فى الترام أمام الناس. … قد تبدو هذه الحكاية مسلية الآن، لكنها لم تكن كذلك فى وقتها (*).

بعد سنة أو سنتين تحسن بيت الطلبة قليلاً، فركّبوا أبواباً على التواليتات، و ركّبوا حمامات فى البدروم فأصبحت الأمور مقبولة نوعاً ما (**).

كان السوڤييت مهووسين بالأمن، فكنتُ إذا أردتُ السفر إلى موسكو أو غيرها يلزمنى أن أستخرج تصريحاً بذلك. لم يحدث أن رُفض لى، (أو لغيرى،) طلب. لكن ذلك التضييق كان من المنغصات التى لا لزوم لها. ذات مرة قلت فى نفسى “يلعن أبوهم،” و سافرت بدون تصريح، ولم يحدث شيء.

كانت العنصرية فى المجتمع السوڤييتى من أقسى المحظورات، خصوصاً و أنها كانت تتعارض مع جوهر العقيدة الرسمية. و مع ذلك كان بعض الروس عنصريين، و بطريقة فجة. لم أعانى شخصياً من ذلك، لكنى شاهدت مرة حادثة طريفة أحب أن أحكيها: كنا فى منتجع على شاطئ البحر الأسود وكان هناك عدد من الطلبة الكوبيين، بعضهم بيض و بعضهم سود. سمع كوبي أبيض بائعاً فى كشك يشير إلى زميل له بقوله “ذلك الكوبي الأسود-الطيظ.” (***). بعد دقائق جاءت مجموعة من الكوبيين الجدعان، بيض و سود، و سحبوا البائع من الكشك و ضربوه علقة لن ينساها – أمام الملأ و فى وضح النهار. شاهدت الحادثة بنفسي، و فى حدود علمى لم يحاسبهم أحد على ما فعلوه.
______________________________
*) بعد أسبوعين أو ثلاثة إتصل بى مخبر بوليس ليخبرنى أنهم لم يعثروا على السارق، و أن السيدة العجوز التى كانت تراقب الحمام سيخصم من أجرها ثمن الملابس المسروقة إذا لم أُسقط البلاغ. فطلبت منه إسقاط الشكوى و قفل الموضوع.
**) لكي أكون عادلاً لا بد أن أذكر الواقعة الآتية: بعد حوالي ٣٠ سنة من معاناتى فى بيت الطلبة فى ليننجراد، دخل إبنى جامعة كاليفورنيا فى بركلى (UC Berkeley)، و ذهبنا معه، أنا وزوجتى، فى أول يوم لنطمئن على ظروفه فى بيت الطلبة. إحقاقاً للحق – لم يكن ذلك المكان أفضل كثيراً من بيت الطلبة التعيس الذى عشت أنا فيه فى ليننجراد قبل ذلك بثلاث عقود. حتى أن أمه بكت فى السيارة بعد أن غادرنا المكان.
***) أعتذر عن الألفاظ، لكن هذا هو ما قاله البائع.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version