الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ١٠…


الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ١٠

كان شارع نِڤسكى (Nevsky) هو الشارع التجاري الرئيسي فى ليننجراد (مثل الشانزليزيه فى پاريس أو أكسفورد ستريت فى لندن.) و كنا نذهب إلى هناك من حين لآخر للتمشية و أكل الكباب الشهي فى مطعم ‘القوقاز’ الممتاز. ذات مرة كنا نتمشى فى شارع نڤسكى عندما استوقفَنا رجل كبير فى السن من أواسط آسيا سمعنا نتحدث باللغة العربية. صار الرجل يلمسنا ليتبرك بنا و هو يردد بالروسية: “عرب … من بلاد رسول الله …” لم أشأ أن أخيب ظن الرجل بإخباره الحقيقة، و تركته “يأخذ البركة” من شخص لا يمت لها بصلة.

هذا أحد النماذج التى رأيتها من أهل أواسط آسيا. النموذج الآخر كان ‘رشيد هاشِموڤيتش’ (أي رشيد إبن هاشِم، وفق منظومة التسميات الروسية.) الذى كان زميلى فى القسم أثناء مرحلة الدراسات العليا، وأصبحنا أصدقاء. كان رشيد شاباً عصرياً تماماً، لا يلعب الإنتماء الديني أو العنصري دوراً هاماً فى حياته. كان رشيد أيضاً هو المسؤول عن الكمپيوتر فى القسم. (كان الكمپيوتر فى ذلك الوقت فى حجم المكتب و لا يستطيع إستعماله إلا من تلقى تدريباً خاصاً.)

أغلب المسلمين فى الإتحاد السوڤييتى كانوا من جمهوريات آسيا الوسطى – كازاخستان و أوزبكستان و طاچيكستان … إلخ، و أولئك كانت لهم لغاتهم القومية، (و إن كانوا جميعهم يعرفون اللغة الروسية.) لكن كان هناك أيضاً مسلمون روس مثل الشيشان و الداغستانيين. و كان للمسلمين فى ليننجراد مسجد جميل ذو طراز معماري متميز فى وسط المدينة. و كان عدد من الزملاء المصريين يذهبون للصلاة فيه يوم الجمعة.

موضوع القوميات (nationalities) كان يحظى بكثير من الإهتمام فى الإتحاد السوڤييتى. حقوق القوميات كانت محمية بالدستور و القانون. وعلى مدى تاريخ الدولة السوڤييتية التى إستمرت ٧٠ سنة كان أفراد من القوميات “غير-الروسية” على قمة السلطة أو بالقرب منها، مثل ستالين (من چورچيا،) و ميكويان (من أرمينيا،) و جروميكو و فرونزا و غيرهم. لكن الديانة لم تكن تعتبر “قومية (nationality)” تتمتع بحماية الدولة.

خلافاً للإعتقاد السائد لم تكن الدولة السوڤييتية تقمع الدين. لكنها بالتأكيد حَرَمَته من المميزات الهائلة التى كان يتمتع بها على مدى العصور، مثل إحتكار الإعلام و التعليم و تجنيد الوالدين لتربية أطفالهم ليكونوا متدينين. فى العصر السوڤييتي كان تلقين الدين للأطفال فى المنزل ما زال ممكناً، لكن ظروف العمل كانت تجبر أغلب العاملين على ترك أطفالهم فى روضة أطفال طوال اليوم، و أحياناً من صباح الإثنين إلى مساء الجمعة، وهناك كان الطفل يتعرض لوجهة النظر المضادة.

على ذكر روضات الأطفال الأسبوعية – كان الروس يتداولون عنها حكاية طريفة : ذات مرة شاءت الظروف أن ‘ماما’ لم تستطع الذهاب إلى روضة الأطفال لإستلام طفلها بعد الشغل يوم الجمعة، و ذهب ‘پاپا’ بدلاً عنها. كان البرد شديداً و الطفل مكلفتاً بالملابس الثقيلة عندما إستلمه أبوه و أخذه إلى البيت. لما خلعت ‘ماما’ فى البيت الملابس الثقيلة عن الطفل صاحت فى زوجها: “هذا الطفل الذى جئت به ليس طفلنا!” رد الزوج بهدوء: “و ما الفارق؟ سنرجعه يوم الإثنين على أي حال.”

قد تكون هذه الحكاية مجرد نكتة، لكن لم يكن هناك ما يمنع وقوعها بالفعل. و ما يعطيها بعض المصداقية هو أنه فى ذلك الزمن كانت كل المعاطف من نوع و لون واحد، و كذلك السراويل و الأحذية و الكوفيات و القفازات.

لكن هذه النكتة لا تعنى أنهم كانوا يهملون الأطفال أو يستهترون بهم. أذكر ذات مرة، عندما كان إبنى عمره بضعة شهور، أنه صار يبكى دون إنقطاع مهما فعلنا. إتصلت زوجتى تليفونياً بالعيادة الطبية، وقبل نصف ساعة جاءت إلى شقتنا طبيبة كشفت عليه و شخصت المشكلة و عالجتها. لم تتقاضى الطبيبة عن ذلك أجراً، فالعلاج الطبي بكافة أنواعه و على جميع مستوياته كان مجانياً.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version