الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٧…


الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٧

الثقافة الرفيعة متاحة فى الولايات المتحدة. لكن عليك أن تسعى إليها إذا أردتها. و إذا لم تسعى إليها فهي لن تسعى إليك، و يمكن أن تقضى حياتك دون أن تتعرف على الموسيقى الكلاسيكية (إلا قشور منها إستُعملت ك ‘sound tracks’ فى الأفلام السينمائية،) أو الفنون الجميلة (اللهم إلا على بعض علب الحلويات،) أو الأدب، (إلا إذا إستعملوه لإنتاج فيلم سينمائى ملىء بالأغانى و الرقص.) الثقافة الرفيعة لا تعترض طريقك، ولا تراها فى التليڤزيون أو تسمعها فى الراديو إلا نادراً أو على محطات خاصة لا يعرفها إلا هواة تلك الفنون. و يجذبك بعيداً عنها طوفان من التفاهة الملونة البراقة التى تصعب على البسطاء مقاومتها.

كان الإتحاد السوفييتى فى الستينات على عكس ذلك تماماً – إذا فتحت الراديو أو التليڤزيون فلم تكن تجد فيه من برامح الترفيه إلا عرض باليه أو أداء سيمفونى أو برنامج تثقيفي عن الأدب أو الفن (*). أي أنك (إذا كنت بطبيعتك على إستعداد لتقبل الثقافة الرفيعة،) لم تكن تحتاج أن تبحث عنها، فهي التى كانت تسعى إليك. بل إنها كانت شبه مفروضة، فلم تكن هناك برامج تافهة تتنافس معها على عيون و آذان المشاهدين.

و إذا كنت مهتماً بالفنون الجميلة فكان هناك الإرميتاچ، و هو فى نظر العارفين من أعظم متاحف الفنون فى العالم، و كان ثمن تذكرة دخوله لا يزيد كثيراً عن ثمن تذكرة الترام أو الأوتوبيس. وكان هناك أيضاً المتحف الروسى المتخصص فى أعمال الفنانين الروس، و متاحف أخرى كثيرة من درجة أقل.

كنتُ قد نشأتُ فى بيئة لا تعرف تلك الثقافة. حتى مدرسة المعادى النموذجية التى قضيت فيها ٣ سنوات لم تفتح فى أذهاننا أية نوافذ تجاه الثقافة الغربية، (ولا حتى الشرقية.) لذلك عندما يسألنى أحد عن أهم فائدة خرجت بها من تجربة الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى، أجيب بلا تردد إنها كانت الإنفتاح على الثقافة الرفيعة.

و لم يكن السوڤييت شوڤينيين فى الأمور الثقافية، فكنت تسمع سيمفونيات بيتهوڤن و موتسارت (و حتى جيرشوين) كما تسمع أعمال تشايكوڤسكى و جلينكا، و كانت كتب همنجواي و ستندال و نصر الدين حُجّا (المكافئ لجُحا عندنا،) متاحة بنفس الوفرة التى يطبعون بها كتب تولستوي و تشيكوف و دوستوييڤسكى.

مسرح ماريينسكى للأوپرا و الباليه فى ليننجراد كان يلى مسرح البولشوي مباشرة فى مكانته. ثمن تذكرة ماريينسكي كان فى متناول طالب الجامعة (حتى لو أخذ معه صديقته من معهد الطب رقم ١.) المشكلة لم تكن فى الثمن، بل فى الشحة. كانت أحياناً تجيئ إلى معهدنا أو إلى بيت الطلبة سيدة تبيع التذاكر (ربما مقابل عمولة من المسارح.) و كان الطالب إذا أراد شراء تذكرتين لمشاهدة باليه فى مسرح مارينسكي، أجبرَته تلك السمسارة على أن يشترى معهما تذكرتين على عرض ليس عليه إقبال فى أحد قصور الثقافة. و كانت تلك الممارسة (الغير قانونية) تسمى “التحميل” – أي تحميل شيء غير مطلوب على شيئ آخر مرغوب.

كان الذهاب إلى المسرح مع زميلة من المعهد أو من جامعة أخرى هو أرقى طريقة لتكوين صداقة أو علاقة رومانسية. فقد كان يتيح للطرفين فرصة للتعارف فى وسط راقى، و للحديث فى مواضيع ثقافية محترمة. و إذا كان هذا فى الصيف، فربما كانت تلى العرض المسرحي تمشية على شاطئ النيڤا فى منتصف الليل بينما السماء ما زالت مضيئة بضوء ناعم و دافئ مثل ضوء الغروب (**). أغلب أصدقائى قد تجاوزوا السن التى تهمهم فيها هذه الأمور. و آمل ألا أكون قد أثرت فى قلوبهم مواجع و شجون.

أعود إلى الثقافة – عندما رجعت إلى مصر بعد البعثة الأولى لم تكن معى سيارة و لا غسالة (***)، لكن كان معى صندوق مليئ بالكتب و الإسطوانات. عندما سافرت فى البعثة الثانية بعد ٣ سنوات، تركت ورائى تلك المقتنيات، و لم أعثر على أي منها عندما عدت. الراجح أن آلافاً من قراطيس اللب و الفول السودانى فى تلك الفترة كانت عليها كتابات باللغة الروسية.

كون الثقافة الرفيعة متاحة و مجانية لا يعنى أن الكل إنتهلوا منها. كان هناك الكثيرون الذين رفضوا كل شيئ يتعلق بالثقافة، و إعتبروا فترة البعثة فترة سجن مؤقت لا بد من تحملها فى سبيل الحصول على شهادة تضمن لهم فى بلادهم “قيمه و مركز و وظيفه ميرى.”
__________________________
*) بالإضافة، طبعاً، إلى قدر كبير من البرامج السياسية و العقائدية. (المزيد عن هذا فى مقالة أخرى إن شاء الله.)
**) يُسمى هذا الوقت من السنة عندهم الليالى البيضاء. و هو وقت ساحر بالفعل.
***) هذا أحد أهم أسباب تفضيل البعثات إلى الغرب.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version