الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ١…


الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ١

إقترح بعض الأصدقاء أن أكتب عن تجربتى كطالب فى روسيا. الحديث بإستفاضة عن منظومة التعليم السوڤييتية بمختلف مراحلها و فروعها قد يحتاج إلى مجلدات، (لأن التعليم كان أهم شيئ عندهم.) لذلك سأقصر حديثى على تجربتى الشخصية فى دراسة الهندسة الكهربائية فى المرحلة الجامعية و فى مرحلة الدراسات العليا. و سأفعل ذلك فى تعليق قادم إنشاء الله، أما فى هذا التعليق فسأقدم بعض الملاحظات العامة لكي أضع التعليق القادم فى سياقه.

أهم الإنطباعات عن التعليم فى روسيا هو أنه كان يتسم بالجدية و الإنضباط: من أولى إبتدائى إلى البكالوريوس كانت الدراسة تبدأ يوم ١ سبتمبر و تستمر حتى ٣٠ يونية، ٦ أيام فى الأسبوع، ٧ ساعات فى اليوم بغض النظر عن أي شيئ … (“rain or shine” كما يقول الأمريكان.) لم تكن هناك أنصاف أيام، و لا أيام لإجتماعات المدرسين … و لا شيئ آخر من هذا القبيل. كل يوم من ٨ صباحاً إلى ٤ مساءاً. كانت الأجازات قليلة و قصيرة – يومين فى عيد الثورة و يومين فى عيد العمل و أجازة نصف السنة و إنتهينا.

الطالب لم يكن يشترى التعليم. بالعكس – الدولة هي التى كانت تشترى موهبته، و كانت تدفع تكاليف ذلك بالكامل، بما فيها السكن و مرتب للمعيشة. مقابل ذلك كانت الدولة صارمة فى معاييرها: إمتحانات القبول كانت صعبة؛ و حتى بعد إجتياز ذلك الإمتحان، كانت السنة الأولى فى الكلية تعتبر سنة تجريبية (probation)؛ فإذا قرر المدرسون بعدها أن هذا الطالب أو ذاك لا يبشر بالأمل، كان يُفصل بعد أول سنة بلا تردد. و كانت نسبة المفصولين عالية – المجموعة (section) التى كنتُ أنا فيها كانت تتكون من ٣٠ طالب فى أول سنة. فى السنة الثانية نزلت إلى ١٧. (ما فيش “يا أماه إرحمينى.”) لكنهم بعد تلك التصفية المبكرة كانوا يوفرون كل المعونة للمتبقين إذا تعثروا، لا سيما فى السنوات الأخيرة، ولم نفقد أحداً آخر حتى التخرج.

(لم تكن تلك بالضرورة مأساة بالنسبة للطلبة المفصولين، فقد كانوا يلتحقون بمعاهد متوسطة فى نفس المجال، و لم تكن المرتبات تختلف كثيراً بعد التخرج على أي حال.)

دراسة الهندسة كانت تستغرق من ٥,٥ إلى ٦ سنوات. المشروع كان يستغرق نصف سنة على الأقل. الإمتحانات كانت كلها شفوية وجهاً لوجه مع الأستاذ. و المشروع كان يناقش أمام لجنة من الأساتذة فى جلسة علنية. نظام التقييم كان من خمس نقاط: نقطتين = راسب؛ ٣ = مقبول؛ ٤ = جيد؛ ٥ = ممتاز. (هذه المنظومة تسمح بحساب تقدير رقمي متوسط مثل GPA فى أمريكا.) الطالب النادر الذى كان يحصل على ٥ فى جميع المواد كان يحصل على مميزات مادية و معنوية ملموسة. و كان إذا نقصته “٥” فى مادة ما يُسمح له بإعادة الإمتحان فيها حتى لا تضيع عليه تلك المميزات.

بإستثناءات محدودة كانت الجامعات (univerities) تختص بالعلوم البحته أو “النظرية” (الرياضيات و الفيزياء … إلخ؛) و بالإنسانيات (humanities) مثل الآداب و التربية و الحقوق و التاريخ و الفلسفة … إلخ. أما العلوم التطبيقية، مثل الهندسة و الطب و الصيدلة فكانت فى الغالب تدرّس فى معاهد عليا (institutes). تلك المعاهد كانت ٣ أنواع –
* معاهد عامة تشمل جميع الفروع فى المهنة المعنية، مثل معهد الطب، و معهد الصيدلة، و معهد الهندسة متعدد التخصصات (Polytechnic).
* معاهد دقيقة التخصص، مثل معهد بناء السفن و معهد البصريات.
* معاهد “بين البينين”، مثل معهد الهندسة الكهربائية، و معهد الطاقة و معهد الهندسة الميكانيكية.
و الراجح أن هذا التقسيم كان لأسباب تاريخية و ليس نتيجة لفلسفة تعليمية بعينها.

كل الجامعات و المعاهد كانت حكومية، و بالتالى كانت مضمونة من ناحية خضوعها للمعايير الأكاديمية. لم تكن توجد جامعات خاصة وهمية أو جامعات أونطه أو جامعات هي مجرد ‘صندوق بريد’ كما يحدث كثيراً فى الغرب.

كان المنهج الدراسي يحتوى على مواد سياسية و عقائدية مثل “المادية الديالكتيكية” و “الشيوعية العلمية.” لكن الطلبة الأجانب كانوا معفين من دراستها. لا أعرف بالضبط نسبة تلك المواد فى المنهج، و أعتقد أنها ربما كانت حوالي ١٠ % .

التعيين كان بالتكليف. (كانو يسمونه ‘التوزيع’، وهي تسمية أقرب إلى الواقع.) وكانت مراكز الأبحاث الحربية تأخذ “أول قطفة،” فكانت تُرسل مندوبين قبل التخرج بفترة لمحاولة إقناع أفضل الطلبة أن يشتغلوا عندهم. (غنى عن الذكر أن الطلبة الأجانب كانوا خارج تلك العملية.)

هذه بعض الملاحظات العامة عن التعليم فى روسيا فى أواسط القرن الماضي. (و قد تغير الكثير من ذلك الآن.) و فى مقال آخر سأتحدث عن بعض التجارب الشخصية.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version