الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٩…


الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ٩

كانت Vyeta Abramovna طبيبة المعهد سيدة صغيرة الحجم تقارب سن المعاش، لكنها كانت مرحة الطباع سريعة الحركة. إحتضنتنى الدكتورة Vyeta من أول يوم وصلتُ فيه (و كنت وقتها صبياً لم أكمل ١٨ سنة،) و صارت تسأل عنى بإستمرار و تؤكد كل مرة ترانى أن أجيء إليها لو واجهتنى أية مشكلة صحية أو معيشية.

بعد السنة الثانية لم أعد أسافر إلى مصر فى الأجازات الصيفية، فقد كان هناك فى الإتحاد السوڤييتى عالم بحاله ينتظر الإستكشاف. و كانت الدكتورة Vyeta تستغل صلاتها لتحصل لى كل صيف على “پوتيوفكا (putyovka)” لقضاء الأجازة فى مكان مرغوب. “الپوتيوفكا” كانت عبارة عن voucher لرحلة أو لمنتجع لمدة ٣-٤ أسابيع. و كانت بعض تلك الپوتيوفكات يصعب الحصول عليها لأن من خاضوا الحرب العظمى (و هم عدد هائل،) كانت لهم أولوية. لكن الدكتورة Vyeta كانت تستعمل سحرها لتحصل لى على ما كان يصعب الحصول عليه.

كانت الأجازات فى جبال القوقاز مرغوبةً بشكل خاص. مرة ذهبت إلى هناك فى أجازة مشي. كنا نمشى كل يوم فى الجبال ٢٠ – ٣٠ كيلومتر بقيادة مرشد محلي، حتى نصل إلى قاعدة فيها خيام و طباخ و حمامات. و بعد عشاء شهى (*) و ليلة فى الخيام، نستأنف السير فى الصباح، … و هكذا لمدة ٣ أسابيع. رأينا مناظر خلابة لا نظير لها، و تسلقنا جبل إلبروس Elbrus حتى إحدى قممه. أذكر أننى قبل القمة بعدة أمتار لم أعد أستطيع أن أخطو خطوة واحدة لشحة الهواء. مد لى المرشد عصاه، فأمسكتها و شدّنى إلى مكان الإستراحة (**). كانت تلك الرحلة ممتعة إلى درجة أننى فى العام التالى ذهبت فى رحلة أخرى مشابهة أخذت مساراً مختلفاً فى جبال القوقاز.

فى مرة أخرى حصلت لى الدكتورة Vyeta على “پوتيوفكا” لمنتجع مياه معدنية مثل ذلك الذى ذهب إليه جمال عبد الناصر فى تسخالطوبو. كانت تلك المنتجعات ناجعة بالفعل، و أقول ذلك عن تجربة شخصية. كان العلاج بالمياه المعدنية و حمامات من الطين. كانوا يملأون البانيو بالطين الخارج تواً من بطن الأرض، ساخناً و ذا رائحة نفاذة، … يغطس الزبون فى الطين لمدة محددة حسب روشتة الطبيب، ثم تغسله بعد ذلك ممرضة بخرطوم كما تُغسل السيارات. و كنت تحس بعد ذلك و كأنك ولدت من جديد. كانت تلك المنتجعات متخصصة – تسخالطوبو (Tskhaltubo) لأمراض القلب، يسينتوكى (Yesentuki) و بارچومى (Barjomi) لأمراض المعدة، … و هكذا.

لم يتسع الوقت لزيارة أواسط آسيا التى كانت بالتأكيد جديرة بالرؤية، وكانت زيارتها فى ذلك الزمن لا تتكلف كثيراً. أعنى على وجه التحديد سمرقند و طشقند و بخارى، وهي مدن ما زلت أتمنى زيارتها. لكنى زرت جمهوريات البلطيق، و كان الزائر لجمهوريات البلطيق يحس أنه ترك الإتحاد السوفييتى إلى أوربا الغربية. كذلك زرت أوكرانيا و فنلندا و شواطئ البحر الأسود، و إستكشفت البحيرات و الغابات المحيطة بليننجراد مع أصدقاء روس و پولنديين كانوا متمرسين فى مهارات الملاحة و العسكرة فى الغابات (***).

ذلك حدث فى السنوات الثانية و ما بعدها. أما فى السنة الأولى فكان الحنين إلى الوطن طاغياً. و كان الإتحاد السوفييتى يُشغّل خطوطاً ملاحية للركاب بين أوديسا و الإسكندرية. لا أذكر ثمن التذكرة بالضبط، لكنها كانت رخيصة للغاية. و كانت السفينة تتوقف فى ٥ موانى فى طريقها، و تقف فى كل ميناء طوال النهار ثم تبحر طوال الليل. أهم ميناء كانت تتوقف فيه هو إسطنبول، و هي مدينة عظيمة. و كنتَ إذا إنحرفتَ يميناً بعد الخروج من الميناء تجد نفسك فى ضاحية “الفانوس الأحمر”. كنتُ صبياً ذا ١٨ ربيعاً عندما تصادفت على ذلك المكان. كان عبارة عن حارة “سد” يقف على ناصيتها رجل بوليس. على اليمين و اليسار كانت الأبواب مفتوحة، و فى داخل كل باب صحن فيه أرائك. وعلى الأرائك نساء بعضهن فى سن جدتى. و على الحائط إعلان عن الأسعار بخط كبير تحت عنوان ‘Visita’.

كان معى زميل مصري من سنى، و لم نكن قد رأينا شيئاً مثل ذلك لا فى مصر و لا فى روسيا، فصَدَمنا المشهد صدمة قاسية. منظر الجدات فى ذلك الوضع كان أكثر مما نستطيع تحمله، فأطلقنا سيقانا للرياح. ولولا صلابة العود لأصبحتُ أنا راهباً و لأصبح هو صوفياً زاهداً.

كانت التجربة أفضل عندما توقفت الباخرة فى پيريوس بالقرب من أثينا، ثم فى فاماجوستا فى قبرص. أما ذروة الرحلة فكانت لحظة الإقتراب من الإسكندرية فى صباح اليوم السادس. لم أرى فى حياتى منظراً آخر بهذه الروعة. المدينة منفرطة أمامك كعقد من اللآلئ المتوهجة فى شمس الصباح. ياله من منظر ! أسعدنى الحظ فيما بعد برؤية أماكن كثيرة فى العالم، لكنى لم أرى مشهداً مبهراً كذلك المشهد فى أي مكان آخر.
____________________________
*) أي عشاء يبدو شهياً بعد المشي فى الجبال ٣٠ كيلومتر
**) كان ذلك المرشد رجلاً عجوزا من چورچيا يبدو و كأنه يناهز المئة سنه. لكنه كان يقفز على الصخور برشاقة جديان الجبال.
***) تلك المهارات ليست بسيطة، و من لا يعرفها يمكن أن يضيع فى الغابات.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version