مفكرون

احمد عصيد | فيما يلي الجزء الثاني والأخير من مقال "رد لطيف على كلام

فيما يلي الجزء الثاني والأخير من مقال "رد لطيف على كلام عنيف"، ويجد فيه القارئ نصوصا مرجعية عديدة فيما يخص التاريخ وأصول التركيبة السكانية لشمال إفريقيا

حول أساطير "أصول البربر" تصحيحات وتدقيقات
اعتبر السيد حميش في تحايل لفظي ظاهر بأن ابن خلدون ينسب صنهاجة وكتامة إلى اليمن، والحقيقة أن ابن خلدون لم يعتبر صنهاجة وكتامة من "البربر" أصلا، حيث يقول في "كتاب العبر" : "وقال الكلبي إن كتامة وصنهاجة ليستا من قبائل البربر، وإنما هما من شعوب اليمانية"، ويضيف قائلا:"وهذه جُماع مذاهب أهل التحقيق فيهم". لكنه بالمقابل اعتبر أن نسبة الأمازيغ إلى اليمن من أكاذيب النسابة العرب، بل وسماها "ترهات"، وأدعو القارئ إلى قراءة النص التالي من "كتاب العبر" الذي يعرض فيه ابن خلدون روايات النسابين العرب قبل أن يقوم بنقدها نقدا شديدا، يقول:"وأما إلى من يرجع نسبهم من الأمم الماضية فقد اختلف النسابون في ذلك اختلافا كثيرا، وبحثوا فيه طويلا، فقال بعضهم إنهم من ولد إبراهيم عليه الـ///ــلام من نقشان ابنه (…) وقال آخرون البربر يمنيون (…) وقال المسعودي من غسان ومن غيرهم (…)، وقيل تخلفهم أبرهة ذو المنار بالمغرب، وقيل من لخم وجذام كانت منازلهم بفلسطين (…) وقال علي بن عبد العزيز الجرجاني في كتاب الأنساب: لا أعلم قولا يؤدي إلى الصحة إلا قول من قال إنهم من ولد جالوت (…) وذكر آخرون ومنهم الطبري وغيره أن البربر أخلاط من كنعان والعماليق (…) وقيل إن البربر من ولد حام بن نوح (…) وقال الصولي هم من ولد بربر بن كسلوجيم بن مصرائيم".
أما ما نسبه ابن خلدون إلى مالك بن المرحل فهو أشبه بـ"الجوطية" التي من حقك أن تختار منها ما تشاء يقول:" وقال مالك بن المرحل البربر قبائل شتى من حمير ومضر والقبط والعمالقة وكنعان وقريش تلاقوا بالشام ولغطوا فسماهم "أفريقش" البربر لكثرة كلامهم".
وتبلغ السريالية غايتها في قول ابن خلدون نقلا عن النسابين العرب :" وقيل أيضا إن حام لما اسودّ لونه بدعوة أبيه فرّ إلى المغرب حياءً واتبعه بنوه وهلك عن أربعمائة سنة، وكان من ولده بربر بن كسلاجيم فنسل بنوه بالمغرب". يتضح من هذه الروايات الأسطورية أربعة أمور من الناحية العلمية:
ـ عدم إلمام النسابين العرب بأصل كلمة "بربر" اليونانية ـ اللاتينية Barbarausse و Barbari، مما جعلهم يختلقون منها أساطير شتى.
ـ عدم انتباههم إلى أن نسبة الأمازيغ إلى غير موطنهم الجغرافي الأصلي الذي استقبلوا فيه كل الوافدين يطرح عليهم مشكلة إثبات فرضية "الأرض الخلاء". وهو أمر مستحيل لأن جميع المؤرخين الذين درسوا بعمق منطقة شمال إفريقيا شهدوا بكثافة ساكنتها عبر العصور.
ـ أن أساطير الأصول تعتمد دائما وجود جدّ أكبر وشعب متجانس منحدر منه، وهو أمر لا يمكن تصديقه بحال، إذ تكذبه الدراسات الأركيولوجية والأنثروبولوجية والتحليلات الجينية المختبرية.
ـ أن أساطير الأصول تكرس الانتماء إلى الشرق أو إلى الشمال الأوروبي، حيث ساد الاعتقاد بأن الغرب تعمه البحار، يقول كابرييل كامب "لقد جرت العادة في النصوص القديمة على العودة بأصول سائر الأقوام إلى المشرق، نظرا للاعتقاد الذي كان لدى القدامى بأن لحضارتهم جذورا في شرق المعمور Œkoumène (أي الأرض المأهولة)".
لقد استعمل ابن خلدون كلمات التشكيك "زعموا" و"يزعمون" وهو يورد كل تلك الأخبار العجيبة، ولكنه كان واضحا تمام الوضوح عندما انبرى إلى نقد تلك الروايات بقوله:"وافريقش الذي يزعمون أنه نقلهم قد ذكروا أنه وجدهم بها، وأنه تعجب من كثرتهم وعجمتهم، وقال ما أكثر بربرتكم، فكيف يكون هو الذي نقلهم وليس بينه وبين أبرهة ذي المنار من يتشعبون فيه إلى مثل ذلك أن قالوا إنه الذي نقلهم" هكذا رصد ابن خلدون بذكائه تناقضات روايات النسابين العرب، وأضاف في نقد الفكرة التي تبناها الأستاذ حميش خطأ وهي الأصل اليمني للأمازيغ: "وأما القول أيضا بأنهم من حمير من ولد النعمان أو من مضر من ولد قيس بن عيلان فمُنكر من القول". ثم قال وهو يتحدث عن ماذغيس الملقب بالأبتر "وهو أبو الترهات في شأن أوليتهم". أي الذي روج الأكاذيب الباطلة في شأن نسب "البربر". كما كتب في نقد النسابين العرب ورواة الأخبار والمفسرين "ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات".
وحتى يكون واضحا في إنكار الأصل اليمني للأمازيغ أورد ما ذكر في كتاب "الجمهرة" لابن حزم حين قال: "ادعت طائفة من البربر أنهم من اليمن ومن حمير، وبعضهم يُنسب إلى بر بن قيس، وهذا كله باطل لا شك فيه، وما علم النسابون لقيس بن عيلان ابنا إسمه "بر" أصلا، وما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن".
ويضيف ابن خلدون في نقد ما كتبه ابن قتيبة:" وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة أنهم ولد جالوت، وأن جالوت من ولد قيس بن عيلان فأبعد عن الصواب".
بعد هذا النقد تبنى ابن خلدون نسبتهم إلى كنعان، ما يجعل الرغبة في إيجاد نسب يمني خالص للأمازيغ مجرد تهويمات أسطورية.
والغريب أنه إذا كان ابن خلدون قد اهتدى إلى ما في أخبار النسّابين العرب من تلفيق قبل ستة قرون، فإن أستاذ الفلسفة ما زال في القرن الواحد والعشرين يعتمد تلك الأخبار على أنها حقائق، ورواة الأخبار الأسطورية على أنهم مراجع موثوقة.
لكن ابن خلدون سرعان ما يتدارك كل ما قاله في الفقرة التالية البليغة الدلالة، والتي أدعو القراء الأعزاء إلى تأملها: "لم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل وإلى الاسكندرية عامرة بهذا الجيل ما بين البحر الرومي وبلاد السودان منذ أزمنة لا يُعرف أولها ولا ما قبلها"، وهو كلام واضح يعني بلغة اليوم عراقة العنصر الأمازيغي على أرض شمال إفريقيا منذ "ما لا تعرف بدايته". فكيف لا أحد يعرف حقيقة هؤلاء السكان في ماضيهم البعيد، ثم يُنسبون بإطلاق إلى اليمن أو الكنعانيين أو غيرهم ؟
وقد انتبه ابن خلدون إلى السبب الذي جعل بعض الأمازيغ يصطنعون لهم أنسابا من الشرق وإن لم تكن صحيحة قائلا: "ولكنهم لما أصابهم الفناء وتلاشت عصابتهم بما حصل لهم من ترف الملك والدول التي تكررت فيهم، قلت جموعهم وفنيت عصابتهم وعشائرهم وأصبحوا خولا للدول وعبيدا للجباية واستنكف كثير من الناس عن النسب فيهم لأجل ذلك" وهذا كلام واضح يفسر حتى تشدّد بعض الأمازيغ المصابين اليوم بلوثة القومية العربية أو الإـ///ــلام السياسي، بل ويفسر جذور اصطناع الأمازيغ لشجرات النسب إلى آل البيت بعد أن صار المرينيون الأمازيغ يُخصصون رواتب وأعطيات لمن اعتبروا "شرفاء" ويمتلكون تلك الشجرات الوهمية.
أما ما نسبه السيد حميش لكابرييل كامب Gabriel Camps فهو أيضا لا يخلو من تدليس، ذلك أن كامب في كتابه Les berbères mémoire et identité قد عمد إلى تفنيد الكثير من الأساطير التي تنسب الأمازيغ إلى شعوب أخرى بإطلاق، إذ أن المعروف عن كامب هو تشكيكه في النظريات التي تكثر من الحديث عن الهجرات ودعوته إلى دراسة الآثار المادية للإنسان القديم عوض ترويج الروايات المختلفة، ومن أهم أقواله في هذا الباب قوله "وماذا لو أن البربر لم يأتوا من أي مكان ؟". وحتى عندما يتحدث عن شواهد تثبت علاقة سكان شمال إفريقيا بهجرات سابقة من الشرق، فهو لا يقرأ تلك الشواهد على أنها أدلة على أصل مطلق كما يفعل التعريبيون. بل هي علامات على وجود تأثير من هجرات قديمة، هذه الهجرات التي كانت من جهات مختلفة.
فحسب Gilles Boetsch و Jean Noel Ferrie في « Le paradigme berbère » الشعوب التي ذكرها المؤرخون على أن الأمازيغ انحدروا منها كثيرة جدا ومنها السريان واليهود والعرب والكوشيون والأريان والفينيقيون والكنعانيون والإيبيريون والوندال والإغريق واللاتين والزنوج دون ذكر السلتيين والغاليين وشعوب شمال أوروبا، لكن اللغز المحيّر الذي يضع كل هذه الفرضيات موضع شك هو كيف تجتمع كل هذه الجنسيات في الأمازيغ دون أن يكون ثمة خيط رفيع رابط يجعل منهم "أمازيغ" بالذات وليسوا غيرهم، وكيف لم تسلب منهم هذه الأقوام كلها خصوصيتهم اللغوية التي لا تنتمي إلى أي من الشعوب المذكورة، فإذا كانت ثمة تشابهات في بعض المكونات المعجمية فإنه رغم ذلك لا يجوز مطلقا اعتبار أن هذه اللغة هي نفسها تلك، أو جاءت منها بإطلاق، لأن في ذلك مجازفة غير مقبولة في البحث العلمي. وهذه هي مشكلة المنظرين القوميين العرب ومنظري الحركات الاستعمارية، كمثل العبارة الخرقاء التي نقلها الأستاذ حميش عن أحد غلاة القومية العربية والتي قال فيها "إنه تكاد لا توجد كلمة بالبربرية إلاّ ولها وجود في لسان العرب". وهو كلام لا يقوله عاقل.
لقد تحدث القوميون العرب عن النسابين العرب وعن الأصل اليمني والكنعاني وهم لا يعلمون بأن مؤرخين قدامى قبل ظهور العرب على مسرح التاريخ نسبوا الأمازيغ إلى الأصل الفارسي والميدي والهندي والموسيني، ومنهم سالوست Sallust وبروكوبيوس Procopius وسترابون Strabon وبوليبوس Polypus وغيرهم، وذلك تمشيا مع العادة التي ذكرها كامب وأوردناها سابقا والتي تعتبر الغرب نهاية العالم التي يحدّها البحر وأن كل الحضارات قادمة من الشرق. وقد أورد ستيفان كزيل Stephane Gsell في كتابه الشهير "تاريخ شمال إفريقيا القديم" أخبار تلك الأساطير القديمة باعتباره من أكبر العارفين بذلك التاريخ، حتى أن جُل المؤرخين أخذوا عنه واعتمدوه.
إن من يستعرض النظريات الكثيرة جدا لـ"أصول البربر" دون أن ينتبه إلى الخلاصات والتحفظات التي ينتهي إليها الباحثون، سيجد بأن الأمازيغ شعوب قادمة من كل صوب إلا من موطنهم الأصلي الذي عُرفوا به، وهذا يتعارض مع بديهية علمية كونية تقول إن لكل شعب تراب ووطن نشأ فيه، وطور خبراته في التعامل مع محيطه ومع مختلف الأجناس والشعوب المحيطة به أو المجموعات المهاجرة التي تفاعل وتعايش معها مباشرة.
ولقد كان من أفدح عواقب هذه النظرة التي تنسب سكان شمال إفريقيا إلى جهات بعيدة وخليط من الأقوام أن أصبح تاريخنا تاريخ أجانب، وحتى تتضح هذه الفكرة أذكر القراء بالمنهجية التي درسنا بها تاريخ المغرب في المدرسة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وهي التالية: "جاء الفينيقيون وجاء الرومان ثم جاء الوندال فالبيزنطيون، ثم جاء العرب،، ثم جاء الاستعمار الفرنسي …"، بل أكثر من ذلك يروي الأستاذ محمد شفيق دائما عن أول كتاب مدرسي لتاريخ المغرب بعد الاستقلال كان مفتتحه درس يحمل عنوان "جزيرة العرب" ( !؟) متسائلا هل يجوز التأريخ لبلد ما انطلاقا من جغرافيا أخرى بعيدة عنه ؟
السؤال الذي نطرحه بعد هذه الجولة في الأصول الأسطورية المختلفة هو: ما هي الخلاصة العلمية التي يمكن أن نخرج بها من الأخبار المتضاربة للهجرات والتبادلات الحضارية التي درسها الدارسون وتحدث عنها المؤرخون ؟
في الواقع لن نجد أفضل من هذه الفقرات التي صيغت بتحفظ علمي رصين، بعيد عن الرغبة في إشباع الجموح الإيديولوجي لهذا الطرف أو ذلك، كما أنها فقرات تستجيب بأمانة للقرائن العلمية المختلفة التي يسوقها الدارسون المعاصرون، ويؤكدها التحليل المختبري الدقيق.
يقدم النص التالي نموذجا للنظرة العلمية المتوازنة والمحايدة في هذا الموضوع: "إن الفينيقيين والرومان والعرب على الخصوص أغنوا كثيرا دون أدنى ريب القاعدة الحضارية لشعوب إفريقيا الشمالية، إلا أن هذا الإسهام لم يكن على ما يبدو كثيفا من الناحية السُلالية، إذ تم التهامه بسرعة حيث أن ظاهرة الاستيعاب تقع في هذا البلد على مستويين اثنين كلما سنحت لها فرصة التكون:
ـ فعلى المستوى السُلالي يؤول مصير المهاجرين الذين يمثلون الأقلية إلى الذوبان في الكيان الأصلي السائد والمهيمن.
ـ وعلى المستوى الحضاري فإن الأمر يختلف إذ تصل المساهمة الجديدة الأكثر فعالية والأشد طاقة إلى فرض نفسها دون أن تستطيع طمس المعالم القديمة، وإن أولائك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم كنعانيين وقرطاجيين أو رومانيين، كما هو الشأن بالنسبة للذين يعتبرون أنفسهم اليوم عربا، يساهمون جميعا في هذه البنية الليبية الإفريقية أو البربرية، التي كان التاريخ قد وجدها مكتملة التكوين في إفريقيا الشمالية الممتدة من خليج سرت إلى المحيط الأطلسي" (مصطفى أوعشي، أصل أهالي شمال إفريقيا، عن موسوعة مذكرات من التراث المغربي ص 103).
ويقول المؤرخ شارل أندري جوليان Charles André Julien في كتابه "تاريخ إفريقيا الشمالية " des origines à 1930 Histoire de l’Afrique du nord ، في هذا النص الذي هو أفضل جواب ربما على الأستاذ حميش والقوميين العرب:"لا شك أنه منذ أوائل عصور التاريخ استقرت ببلاد المغرب شعوب مختلفة شديد الاختلاف، وإذا نحن استثنينا الشعوب التي لم تمتزج بصفة عامة بالسكان الأصليين أو المندمجين، مثل الأوروبيين الذين استقروا منذ ما يقرب من قرن، أو اليهود الذين أتوا في دفعات متتالية منذ العصور القديمة، فإننا نلاحظ استيطان الساميين (الفينيقيين والعرب) والهنديين الأوروبيين (اللاتين والوندال واليونان) والأتراك والزنوج، غير أن هذه العناصر المختلفة، وإن هي امتزجت بالسكان المستقرين، فقد أتت في عدد ضئيل جدا بحيث تعذر عليها تغيير المقومات الجنسية بإفريقيا الشمالية، فالوندال كانوا ثمانين ألف، وكذلك العرب المستوطنون فعددهم لم يكن كبيرا جدا".
ويضيف جوليان بتعبير أوضح قائلا:"وفي الجملة لا نرى أن واحدا منها (أي من تلك الأجناس) أمكن أن يكون له مفعول قوي فيما يخصّ واقع البلاد الجنسي".
وينتهي الباحث المؤرخ إلى الخلاصة التالية:"هذه الملاحظات تدعونا إلى التفكير في أن السكان الذين يعمّرون بلاد البربر ـ مع اعتبار بعض عمليات التوليد ـ هم أنفسهم الذين كانوا يعمرونها في أوائل عصور التاريخ".
ولا يعرف هذا المؤرخ الفرنسي الذي يرقد الآن في قبره، والذي كتب ما كتبه قبل 90 سنة من اليوم، بأن التحليلات الجينية والمختبرية للحمض النووي والشريط الوراثي قد أثبتت في القرن الواحد والعشرين، بما لا يدع مجالا للشك، وبدقة عجيبة، ما ذهب إليه. فقد أكدت نتائج الدراسة المنشورة في دورية "كرنت بايولوجي" في الخامس من نوفمبر2019 بأن الهجرات نحو شمال إفريقيا من مناطق أخرى مثل أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء لم تمحُ أبدا الآثار الجينية لشعوب شمال أفريقيا القديمة.
وجاء في كتاب تاريخ المغرب Histoire du Maroc لهنري تيراس Henri Terrasse:"إن البيربير Les berbères الذين كانوا يقيمون في المغرب في بداية العصور التاريخية والذين يشكلون اليوم أساس سكانه، يمثلون وحدة ثلاثية في السلالة واللغة والحضارة". وهو هنا لا ينفي الهجرات المختلفة بل يتحدث بعمق عن تلك التوليفة الحضارية التي تتحدث عنها النصوص أعلاه، والتي نتجت عن استيعاب السكان الأصليين للوافدين عليهم.
ويقول ج سيليرييه Jean Célérier الذي أتيح له أن يدرس بعمق البنيات السوسيوـ ثقافية للسكان الأمازيغ في علاقتها بالتأثيرات الجغرافية:"بوساطة اللغة والمؤسسات الاجتماعية يمثل العالم البيربيري Le monde berbère وحدة حقيقية وروحية لكن من الناحية المادية تنقطع هذه الوحدة ويحُل محلها الصراع القبلي واختلاف المصالح المادية".
وقد كتب شارل أندري جوليان في كتابه المشار إليه:" إن مؤرخ العصور القديمة يقيم بناءه الضعيف على أرض لا استقرار لها، مثله في ذلك كمثل منازل اليابان يهدّدها الزلزال دائما". فما يعتبره البعض حقائق ثابتة ونهائية هو مجرد فرضيات تهتز عند كل اكتشاف جديد، ولعل أهم ما نتعلمه من عصرنا هذا هو ميزة "اللايقين" التي بفضلها تطورت المعارف الإنسانية بشكل سريع، لتصبح أكثر دقة.
يتضح مما سلف ذكره أن مكمن العطب في الأطروحات التعميمية للأصل الشرقي أو الأوروبي للأمازيغ، إنما يكمن في طابعها المجازف الذي يرمي إلى جعل عموم السكان من أصل واحد في تجاهل تام للعناصر الأخرى المختلفة. لكنها في الحقيقة مشكلة الشعوب التي لم تكتب تاريخها، وكتبها بدلا عنها الآخرون وفق مصالحهم وأهدافهم، وهي ليست مشكلة الأمازيغ وحدهم بالتأكيد. لكن النظر الثاقب والنزيه سوف يلمس بلا شك بأن البقعة الجغرافية التي انتمى إليها الأمازيغ عبر تاريخهم قد سميت في المصادر العربية نفسها باسمهم "بلاد البربر"، كما سُمي موطن العرب بـ"جزيرة العرب" وسمي موطن الشعب الصيني بالصين. وهذا معناه أن ثمة عملية تكثيف حضاري هام حدث عبر القرون الطويلة وانتهى إلى صناعة هذا الكيان الذي نسميه اليوم "أمازيغ"، كما أشارت النصوص أعلاه.
من جانب آخر فهذه الآراء التي تنسبنا إلى جميع الأقوام القديمة تجعلنا في النهاية "هبة للكونية"، فهل يفسر هذا سبب انفتاحنا على كل الثقافات واللغات والحضارات عبر العصور؟
إن ما أشار إليه الباحثون من وجود هجرات بشرية هو أمر علمي لا شك فيه، ولكنهم تحدثوا عن هجرات من مختلف الاتجاهات، كما أنهم لم يقولوا أبدا إنه لا وجود لبشر في أرض شمال إفريقيا إلى أن جاء أناس من الشرق فعمّروها، والخلاصة التي يمكن أن ينتهي إليها من قام بمقارنة مختلف النظريات في هذا الموضوع، أن شمال إفريقيا كان مسرحا لهجرات سواء من شمال المتوسط وشبه الجزيرة الإيبيرية أو من الشرق الكنعاني واليمني أو من أواسط إفريقيا السوداء جنوب الصحراء، لكن هذه الهجرات لم تحدث في اتجاه "أرض خلاء" بل للتمازج مع تركيبة سكانية أصلية عريضة وكثيفة ، وبنيات ثقافية موجودة في هذه البقعة من الأرض، ولأن الكثافة السكانية الأصلية تنتهي دائما إلى تذويب القادمين، فقد كان لهذا انعكاس سواء على المستوى السلالي أو الحضاري.

بين التمازج والعرق الخالص
ليس هناك من تضرّر من هذا النبش في الأصول البعيدة ونسبة تاريخنا إلى الأجانب أكثر من الأمازيغ والأمازيغية، فإذا كان التمازج بين البشر حقيقة تثبتها اليوم الحفريات الأركيولوجية ومختبرات البحث الجيني بشكل لا يبعث على الريبة والشك، إلا أن المشكل يظلّ في قراءة هذا التاريخ وتأويله، فهناك من يعتبر أن التمازج والتصاهر يعني تذويب الكل في بوتقة "العروبة الخالصة" وجعلهم عربا أقحاحا، فعندما كنا نقول قبل عقود إن للأمازيغية حقها في المؤسسات والمال العام لأننا مواطنون دافعو ضرائب، كان يقال لنا "كفى من العنصرية ! لا توجد أمازيغية عرقية خالصة لأننا "تمازجنا"، وكأن تعليم الأمازيغية في المدارس واستعمالها في التلفزيون والمحاكم كان يحتاج إلى إثبات أصل خالص، وعندما كنا نقول إنه لا يوجد "عرق خالص" وأنّ تمازُجنا لا يحرمنا من حقوقنا اللغوية والثقافية الأساسية، كانوا يجيبون "ما دُمنا قد تمازجنا فالعربية تجمعنا"، وهكذا يعيدوننا إلى "الثقافة الخالصة"، حتى أضعنا الكثير من الوقت في نقاش عبثي مع من لم يكن تهمه الحقيقة العلمية أصلا، ما دام الهدف هو المراوغة وتبرير سياسة الاستيعاب.
وكان بعض الظرفاء من الرياضيين يقولون إن معادلة العروبة الخالصة هي على الشكل التالي: أ + ع = ع ، و ع + أ = ع، فالنتيجة هي نفسها. بينما الحقيقة أن أ + ع ينبغي أن تعطي تركيبا لهما معا، وينبغي لهذا التركيب أن يتمظهر في المقررات والبرامج الدراسية وفي وسائل الإعلام وأن يتربّى عليه المواطنون ويتشبعوا به باعتباره هويتهم الوطنية الجامعة.
وعلى ذكر العرقية لنتأمل هذا النص لنفهم مقدار التخبط الفكري الذي عكسته مثل هذه الأطروحات المحض إيديولوجية، وهو نص كتبه الراحل عبد الكريم غلاب بعنوان "عروبة هذا المغرب" ونشره في مجلة خليجية :يقول النص "إن بلاد المغرب تنتمي إلى العروبة عن طريق السلالة، فقد هاجرت إلى المغرب قبل الميلاد مجموعات من القبائل العربية اليمنية والكنعانية والفينيقية، ومع هؤلاء كثير من أهل الشام، وإذا عدنا إلى النسابين العرب، نجد أن بعضهم يؤكد أن البربر من السلالة الحامية، وبعضهم يؤكد أنهم ساميون، وبعض الباحثين يؤكد أن أصلهم من اليمن، بينما يؤكد آخرون أنهم من فلسطين" (مجلة الدوحة فبراير 1977).
كُتب هذا النص ذو التوجه العرقي الواضح أيام كان النزوع القومي العربي في قمة غليانه وفورته الإيديولوجية، لكن السيد عبد الكريم غلاب صاحب النص نفسه كتب بعد 12 سنة فقط، عكس ما قاله في النص أعلاه، وهو يُعقب على كتاب أصدره الأستاذ محمد شفيق بعنوان "لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين" سنة 1989 مؤاخذا إياه على "نزعته العرقية" التي وجدها في قوله إن الأمازيغ هم أبناء شمال إفريقيا. حيث قال الراحل في عموده بجريدة "العلم بتاريخ الأربعاء 1 نونبر 1989:"أيجوز في عصرنا هذا أن نفكر عرقيا لنبني على أساس هذا التفكير وحدات لغوية عرقية بعد أن أزال الإـ///ــلام هذا التفكير من أذهاننا بالقرآن ؟". والسؤال الذي طرحناه آنذاك هو أين كان إـ///ــلام الأستاذ غلاب عندما كتب في مجلة الدولة الخليجية قبل 12 سنة بأن الأمازيغ عربٌ بالعرق والسلالة ؟ وأن المغاربة ينتمون جميعا إلى عرق واحد خالص هو العروبة ؟ فأن تعتبر المغاربة عربا بالعرق موقف وطني شريف، بينما أن تعتبر أنهم أبناء موطنهم شمال إفريقيا نزعة عرقية .
لكن للتاريخ ومن باب الإنصاف أن نشير إلى أن الراحل عبد الكريم غلاب قد صحّح كليا موقفه ذاك بالدعوة في كتابه "اللغة والفكر" إلى تدريس اللغة الأمازيغية في المدرسة المغربية، وأكد على ذلك في الندوة العلمية التي نظمها اتحاد كتاب المغرب سنة 1992 بالرباط حول "الكتابة بالأمازيغية".
أما الحركة الأمازيغية فلم تهتم في الحقيقة بموضوع أصول السكان لأنها كانت من الذكاء بحيث تجنبت النقاش العرقي نحو خطاب أقوى وأكثر راهنية، وهو خطاب "الحقوق الثقافية واللغوية"، وأعطت الموضوع طابعا علميا بالتركيز على البحوث الجامعية والتآليف وعقد الندوات الفكرية والقيام بالحملات الإعلامية والاتصال المباشر بالمسؤولين وبالنخب الحزبية والترافع الحقوقي وطنيا ودوليا والدعوة إلى إعادة قراءة تاريخ المغرب بنظرة متوازنة، مبتعدة عن أساطير الأعراق والأصول الخالصة، ولهذا نجحت في جعل الأمازيغية مسؤولية وطنية، وفي انتزاع الاعتراف السياسي والدستوري، دون أن تثير الشنآن أو تهدّد السلم الاجتماعي.

كيف نواجه التهديدات الخارجية
تحدث الأستاذ حميش عن المقومات الوطنية التي مكنت المغرب من مواجهة الأخطار والهزات التاريخية القوية والمتنوعة، والتي منها " الغزو الأيبيري لساحليه الأطلسي والمتوسطي طوال القرنين 15 و16 م، ومنها التهديد العثماني على حدوده الشرقية، هذا فضلا عن حلقات صدمة الحماية والاستعمار الفرنسيين"، لكنه لم ينتبه إلى أن الأخطار التي تحدث عنها توجد اليوم في ذمة الماضي، رغم كل الآثار التي ما زالت تلقي بظلالها علينا حتى اللحظة الراهنة، وأن الأخطار الجديدة التي تواجهنا اليوم أشدّ تهديدا وأشرس بسبب التحافها برداء الدين والمعتقد، مما أدى إلى شرعنة الكثير من آثارها المدمّرة للشخصية المغربية ولمقومات التلاحم الوطني، أقصد هنا تحديدا إيديولوجيتين دينيتين أجنبيتين فتاكتين بكل ما هو وطني، "الوهابية السعودية ـ الباكستانية ـ الأفغانية" و"الإخوانية المصرية ـ القطرية"، اللتين أصابتا بلوثتهما بعض مواطنينا وكادتا أن تعصفا بمقومات الأسرة المغربية والتدين المغربي السّمح، وجعلتا من النظام التربوي المغربي مشتلا للغلو الذي يعوق كل تنمية ، كما يضادّ قيم المواطنة والبناء.
إن مواجهة الأخطار الخارجية لا يكون بنظرية المؤامرة واستعداء المواطنين والأطراف السياسية والثقافية ، بل بترتيب البيت الداخلي عن طريق تحقيق الاعتراف المتبادل وتقوية أسُس العيش المشترك عبر التربية على الحق في الاختلاف واحترام التنوع وتفعيل مكتسبات الدستور التي ما زالت حبرا على رق.

بصدد "أسلم تسلم" وقضايا أخرى
ومن أخطاء الأستاذ أنه تناول قضايا لا يعرف سياقها ولا حقيقة مواقفي منها، بل اتبع فيها ما قاله الخصوم مما صادف هوى في نفسه، ومن ذلك حديثه عن رسالة "أسلم تسلم" واتهامي للرسول بالإرهاب، والحقيقة أنني أربأ بالأستاذ حميش أن يتناول الموضوع بنفس فكر البداوة الذي تناوله به مجانين السلفية، فأستاذ الفلسفة القريب من عالم العلوم الإنسانية والذي كان وزيرا للثقافة سيعلم بلا شك بأن هذه الرسالة "منسوبة" إلى الرسول وغير موجودة كوثيقة تاريخية، إلا إذا كان الأستاذ حميش يعرف المتحف الذي تقبع فيه بعد تحليلها بالكاربون 14 والتدقيق في خطها ورموزها من طرف أهل الاختصاص، وهذا كله غير موجود على الإطلاق، فقبل العملة النقدية لعبد الله بن الزبير التي ضُربت في بلاد فارس، والتي تعود إلى العصر الأموي، لا يوجد أي أثر مادي لعصر النبوة والخلفاء الأوائل، بما في ذلك القرآن نفسه الذي تقول المصادر إن الخليفة الثالث عثمان قد أمر بجمعه، والذي لا أثر له اليوم، إذ أن أقدم نسخة للقرآن (نسخة صنعاء) تعود إلى ما بعد عصر الخلفاء بعقود طويلة. ولهذا لم يقل أحد من علماء المخطوطات وأهل الاختصاص إن النبي قد ترك أية رسالة من رسائله، ومن تمّ فرسالة "أسلم تسلم" من الأخبار التي تم تلفيقها بعد العصر النبوي بأزيد من 150 سنة، وإذا كان العرب قد بعثروا كل أثر لهم بسبب عدم اهتمامهم بالتوثيق والكتابة، فإنه بالمقابل لا يوجد أي أثر لهذه الرسالة في أرشيف الدول التي زعمت رواية الفقهاء أن النبي قد قام ببعث رسائله إليها. مع العلم أن هذه الدول قد احتفظت في أرشيفها بوثائق تعود إلى ما قبل الإـ///ــلام بقرون.
هذه الرسالة إذن شبيهة بأحاديث البخاري الذي أتحفنا بأخبار من نوع "جئتكم بالذبح" و"نُصرت بالرعب" و"أمرت أن أقاتل الناس" و"لا يفلح قوم ولوا على أمرهم امرأة" وغيرها كثير، والتي جمعها الرجل بعد 220 سنة من وفاة الرسول، والتي ساهمت بشكل كبير في تشويه صورة النبي وصورة الإـ///ــلام في عصرنا.
من جانب آخر لم ينتبه الكثيرون إلى أن نقاشي حول الرسالة المنسوبة إلى النبي هو نقاش بيداغوجي تربوي وليس دينيا، لأن الأمر يتعلق بكتاب مدرسي مُوجّه للأطفال، حيث لا يجوز أبدا تدريس مضامين غير تربوية تتضمن عنفا أو تحريضا على الكراهية، ولست أدري إن كان الأستاذ حميش قد تابع ما حدث بعد حملة السلفيين ضدّي، وسأذكره لعل الذكرى تنفعه في فهم ما يكتب ويقول: فبعد حكاية رسالة "أسلم تسلم" دعوت إلى مراجعة تفسير الفاتحة الذي يُدرس للأطفال والذي يقول إن "المغضوب عليهم" هم اليهود و"الضالين" هم النصارى ، وتعرضت لنفس حملة التكفير والتحريض، وشاءت الصدف الجميلة أن يقوم الملك محمد السادس بإلقاء خطاب في فبراير من سنة 2016 دعا فيه إلى مراجعة كتب التربية الإـ///ــلامية لما تتضمنه من عنف وإرهاب، وكلف بذلك لجنة ملكية قامت بحذف الكثير من المضامين منها الرسالة المعلومة وكذا التفسير المذكور للفاتحة. ولم أسمع صوتا للذين تسابقوا على الشتم والسبّ والتحريض قبل ذلك، ولا ظهر لهم ذكر. فهل يعلم الأستاذ أن الموضوع الذي يتحدث فيه قد قامت الدولة بتسويته على أحسن وجه، وأنني قد خرجتُ منتصرا من جميع تلك المعارك الفكرية ؟
لست أدري إن كان الأستاذ حميش يقوم بدراسة المقررات الدراسية للابتدائي والإعدادي ليعرف ما تُعلمه المدرسة المغربية لأبنائنا، أم لأنه كان قد سجل أبناءه في البعثة الأجنبية لا يهمّه ما يؤرقنا ولا مصير أبناء الشعب المغربي. لكن فيما يخصني أقوم كل خمس سنوات بهذا التمحيص النقدي بغرض معرفة مقدار التطور الذي يحصل في مجال قيم المنظومة التربوية. بل إنني سبق لي أن عقدت ندوات صحفية لإبلاغ نتائج عملي للرأي العام ولوزارة التربية الوطنية بهذا الشأن. وقد نبهت في شتنبر 2019 إلى وجود درس جديد في مقرر التربية الإـ///ــلامية موجه للأطفال، يتحدث عن طرد يهود "بني النضير" من ديارهم وتخريب بيوتهم وقطع أشجارهم ونخيلهم، وللأستاذ أن يحكم على "القيمة البيداغوجية" و"الأهداف التربوية" لنص من هذا النوع.

غزوات الأمويين، الغنيمة، الجنس والمال
أنكر علينا الأستاذ حميش أن نعتبر أن غزوات العرب الأمويين لشمال إفريقيا كانت بغرض الغنائم والجواري والأموال، شخصيا لا أحبّ العودة إلى هذه المواضيع التي نشرنا فيها الكثير وقلنا الكثير، كما لم يُفهم هدفنا منها من طرف المحافظين، والذي هو نزع القداسة عن شخصيات تاريخية غير مُقدسة، وعن مرحلة كتب عنها القدامى بشكل موضوعي وقرأها المعاصرون لنا قراءة أسطورية عاطفية لا تثبت أمام النقد التاريخي، ولعل النصوص الغزيرة التي خلفها لنا المؤرخون المـ///ــلمون القدامى كفيلة بإظهار ما نقول، فقد رسم هؤلاء صورا كالحة لقادة عسكريين أمثال عمرو بن العاص ومعاوية بن حديج وزهير بن قيس البلوي وعقبة بن نافع وحسان بن النعمان وابن الحبحاب وابن عبد الله المرادي وموسى بن نصير الذي بلغ به حبّ المال والغنائم أن سجن طارق بن زياد وعذبه متهما إياه بإخفاء الأموال، ولأن المجال لا يتسع ها هنا لإيراد جميع النصوص المتوفرة، أترك أستاذنا وجها لوجه مع واحد من أكثر النصوص إفصاحا عن حقيقة الغزو الأموي، وهو ما رواه ابن عذاري في كتابه "البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب"، حيث يذكر أنهم "خمّسوا" الأهالي، أي اعتبروهم ضمن الغنائم التي يتم تقسيمها إلى خمسة أقسام، وهذا رغم إـ///ــلامهم، يقول المؤرخ المذكور عن عُبيد الله ابن الحبحاب الذي تولّى سنة 734 : "وأساء السيرة، وتعدى في الصدقات والعشر، وأراد تخميس البربر، وزعم أنهم فيء المـ///ــلمين. وذلك ما لم يرتكبه عامل قبله. وإنما كان الولاة يخمسون من لم يجب للإـ///ــلام. فكان فعله الذميم هذا سبباً لنقض البلاد ووقوع الفتن العظيمة المؤدية إلى كثير القتل في العباد. نعوذ بالله من الظلم الذي هو وبال على أهله".
وحقيقة هذا الفعل الشنيع أن خليفة العرب الأمويين في الشرق كان قد عزل الوالي السابق لما رفض أن يبعث له نفس عدد الرقيق والغنائم التي كانت تصل إلى الخليفة السابق عليه، حيث أجابه الوالي بأن البربر أسلموا ولم يعد يمكن استرقاقهم، فعزله وعين مكانه من عُرف بغلظته وبطشه وعنصريته ضدّ غير العرب، فكانت ثورة الأمازيغ الذين تحولوا إلى المذهب الخارجي، المعادي للأمويين، الثورة التي أنهت حكم العرب في شمال إفريقيا إلى الأبد، وأسست لاستقلال المغرب عن المشرق سياسيا، وفتحت الباب أمام تأسيس الأمازيغ لممالكهم وأمبراطورياتهم الكبرى في إطار الإـ///ــلام نفسه. أما الذي قاد هذه الثورة المظفرة فقد لقبه العرب بـ"ميسرة الحقير"، كما لقبوا من قبل زعيما آخر بـ"كسيلة اللعين"، لأنه رفض عنصرية عقبة وبغيه وتطاوله عليه وهو زعيم في قومه، ما جعله يخطط لقتله وإبادة جنده معه.
أما عن العوامل التي جعلت غزوات الأمويين لشمال إفريقيا غزوات غنيمة واسترقاق وجنس ومال فموجودة في الجزء الثالث من "نقد العقل العربي" بتفصيل، والذي عنونه الدكتور الجابري بـ"نقد العقل السياسي العربي"، ويمكن للأستاذ الإطلالة عليه لما فيه من فائدة في هذا الباب، كما يمكنه الاطلاع على الصورة القبيحة لولاة العرب بشمال إفريقيا في كتاب "البربر عرب قدامى" للسيد محمد العرباوي نفسه. هذا إن كان الأستاذ لا يطيق ما ورد في أمهات الكتب القديمة، وكان يطمئن أكثر إلى مؤلفات القوميين العرب.

معنى الدولة الفدرالية
تناول الأستاذ موقفي من الدعوة إلى الدولة الفدرالية كما لو أن ذلك شُبهة أو جريمة، بينما هذا موقف جزء من اليسار المغربي بجانب الحركة الأمازيغية والعديد من الشخصيات الوطنية، وله مسوغ في اختيارات الدولة المغربية نفسها كاقتراح الحكم الذاتي في الصحراء وإعلان الجهوية الموسعة والمتقدمة، فهل يعتقد الأستاذ بأن إقرار الحكم الذاتي في أقاليمنا الجنوبية سيظل مجرد حلّ محدود مشروط بقضية الصحراء ؟ الحقيقة أن ذلك لن يكون إلا بداية مسلسل تطوري نحو نموذج دولة أرقى من النموذج المتمركز، لحصول المناطق الأخرى على وضع الحكم الذاتي في ظل الوحدة المغربية الجامعة، فما دامت الدولة الوطنية المركزية عاجزة عن إنجاح مشاريع التنمية والتوزيع العادل للثروة وتطبيق الجهوية الفعلية والحدّ من الهجرة في اتجاه المدن الكبرى، فلن يكون التجاوز إلا بالانتقال من النموذج التقليدي إلى نموذج أكثر مرونة وانفتاحا كدولة الجهات ثم الفدرالية. ولا علاقة لهذا الأمر ب"التفكيك والبعثرة" اللذين يخشاهما الأستاذ، إذ من أعظم النماذج الناجحة في العالم نماذج الدول الفدرالية. كما أن الخطر الحقيقي هو في البقاء على وضعية مؤذنة بالانفجار بسبب التردّي العام وسوء الحكامة وقوة السلطوية الجامحة وضعف الثقة في المؤسسات.

كلمة شكر
أشكر الأستاذ حميش الذي أتاح لي أن أكتب ما كتبت، والذي بلا شك سيفيد قراء كثيرين، وسوف لن أردّ ثانية على أي مقال أو تصريح لأستاذنا، لكن حبل الودّ لن ينقطع، ففي حالة ما إذا احتاج الأستاذ المحترم لمراجع أو وثائق أو دراسات أو تقارير رسمية وغير رسمية حول مسلسل مأسسة الأمازيغية، أو إلى الجلوس مع أهل الاختصاص لمساءلتهم عن أمور يريد تدقيقها، أو أراد تعلم اللغة الأمازيغية حتى يُميزها عن لغات أخرى، فسنكون رهن إشارته. أما توعّده بكتابة مقالات "يُفحمنا" بها ويقضي علينا قضاء مُبرما، فرغم أنه سيُسعدنا أن نحظى باهتمام وزير ثقافة سابق صار متخصصا في هجائنا، فإننا نشفق عليه من التعب والإنهاك الذي لا طائل من ورائه، لكن يمكنه دائما المحاولة إن كان يشعر في ذلك بمتعة ما، دون أن ينسى أن "المُفحم" الأكبر هو التاريخ. أما جيل دولوز فقد كتب يوما: "إن الكتابة من أجل التحطيم والدحض هي أحط أنواع الكتابة".

حاشية
إذا ظل في نفس الأستاذ حميش شيء من حتى، وكان بحاجة إلى تفريغ نفسي، أدعوه إلى مناظرة مُصورة، حتى يتمكن من "إفحامي" بشكل ماحق لا يُبقي ولا يذر، وحتى يستفيد جمهور أوسع من علمه وحكمته، وله أن يختار القناة التي يريد، حتى يطمئن قلبه.



احمد عصيد | ناشط حقوقي

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى