محاولة للكتابة حول ما يجري….


محاولة للكتابة حول ما يجري.
ــــ

أغسطس، قبل أربعة أعوام، زرت صنعاء بصحبة الأختين: ساره وهيلين. كانت هيلين تبلغ، بالكاد، عاماً. كان الحصار مضروباً على صنعاء، وغيوم سوداء تخيم على مستقبل السياسة في اليمن. الحوثيون كانوا قد نجحوا في إسقاط اللقاء المشترك، اختطاف المؤتمر الشعبي العام، واختراق مؤسستي الرئاسة والجيش. قضيت أسبوعين كاملين وتأكد لي أن الحوثيين هم الجهة الوحيدة التي تعرف ماذا تريد. التقيت مثقفين وإعلاميين وساسة كانوا مقتنعين كل القناعة أن انهيار اللواء ٣١٠ ومقتل قائده القشيبي هو عمل سيخدم في نهاية المطاف مشروع الدولة. أما الجماعة الأكثر انتباهاً فكانت تقول “لولا الإصلاح لكان الحوثيون أفضل ما راكمته السياسة في اليمن في العقود الأخيرة”. وعندما كانوا يوجهون إلي السؤال: ما رأيك أنت؟ كنت، كعادتي أمام الأسئلة المباشرة، أقول كلاماً غير ذي صلة وأخرج إلى طريق ثانوي. شعرت أني أغرق في نهر من الجنون، كانت صنعاء تعيش حالة من الإنكار الشامل للحقائق، ووجدتني أمشي في مدينة انتحارية.

في العام ١٨٣٠ قرر ملك فرنسا إرسال أحد أبرز مهندسي بلاطه إلى انجلترا. كانت مهمة المهندس دراسة تقنية “قطار البخار” الذي فاجأت به انجلترا العالم. سافر المهندس على متن القطار البخاري بين المدن الانجليزية لأيام متتالية. في النهاية كتب تقريره إلى الملك وقال: يا للجنون، إن هذا الشيء لا يعمل، إنه لا يتحرك. الحقيقة الجسيمة، القطار، فاجأت كل ما يعرفه المهندس عن العلم والعالم فاختار أمامها أن ينكر وجودها، حتى وهي تنقله من مدينة إلى أخرى. ذلك ما كانت تفعله صنعاء: الإنكار الشامل للحقائق، وأكثر من ذلك: طمسها.

في اليوم الرابع، في المساء، تجولت في المدينة بصحبة مثقفين بارزين. سألني أحدهما إن كنت قرأت مقالته التي اختصرت كل ما حدث في عمران بجملة واحدة “نهاية مخزية للص اسمه القشيبي”. قلت له، وأنا لا أعارض أصدقائي عندما التقيهم وجهاً لوجه: بصرف النظر عن التفاصيل، نحن أمام شخص قتل وهو يرتدي البزة العسكرية على يد جماعة لا تمثل أي قانون. هنا رفع الصديق الآخر صوته مقاطعاً: يا أخي كسم البزة العسكرية. كانت كل المواقف انتحارية، المدينة تمضي على طريقة أبطال المأساة: إلى الهاوية وهي تبتسم.

وجدت الإصلاحيين مشغولين، إلى حد بعيد، بما جرى لمرسي في مصر لا بما حل بالديموقراطية هناك. ووجدت الآخرين منصرفين لجرد الخسارات التي حصدها حزب الإصلاح حتى ذلك الوقت. عرض علي الصديق علي المعمري سهرة في ڤيللا “نبيل هائل”. هناك التقيت مجموعة من السياسيين والإعلاميين. سرعان ما ألقيت سؤالاً على أحد مستشاري الرئيس هادي فقال الرجل بوقار: والله ما عندنا فكرة. وزير في حكومة الوفاق كان متحمساً، على نحو خاص، للدفاع عن السياسة الخارجية لروسيا. فجأة قال رجل أعمال شاب: إذا لم تجردوا الحوثي من سلاحه فسيجردكم جميعاً من سلاحكم. لم أسمع أحداً آخر قال كلاماً ذا صلة سوى ذلك الشاب.

يفكر المرء منا: ماذا سنكتب الآن؟ منذ ثلاثة أشهر، تقريباً، وأنا أطرح السؤال على نفسي ولا أجد كتابة. تفككت الأشياء والأزمنة واللغة. الذين يتفهمون وجود الحوثي لا يملكون إجابة عن سؤال “مصير الدولة داخل هذا التفهم”. من يناهضون التحالف يعجزون عن تقدير مصير المعركة في غيابه. من يدعمون الحل العسكري لا يعرفون الشيء الكثير عن ظروف المعركة [سألت مسؤولاً مطلعاً قبل أيام فقال لي: فيما يخص معركة الحديدة فليس لدينا في الحكومة، وليس لدى السعوديين الكثير من التفاصيل حولها]. الشرعويون بلا برلمان، أي بلا شرعية. الذين كانوا قبل ثلاثة أعوام ينكرون وجود ضحايا للتحالف عادوا بعد الخلاف مع قطر ليسردوا جرائمه ويضيفوا إليها جرائم الحوثيين.

تعمل قطر كل ما بوسعها لأجل أن يصبح اليمن مستنقعاً لعدوتها اللدودة. حين يصير اليمن مستنقعاً فإن ملايين الناس ستغرق في الجوع والجريمة، وذلك شأن لا يخص قطر. سيكون ذلك أمراً رائعاً إذا جلب، في نهاية المطاف، اللااستقرار للجارة. منذ توقيع المبادرة وحتى صيف ٢٠١٧ دفعت قطر لليمن مائة وخمسين مليون دولار على ثلاث دفعات. ذلك كل ما دفعته لصالح مشروع الدولة، أو دولة الثورة، إذا كان ممكناً أن نستخدم هذا التعبير. ضمن الحلول الدولية للمسألة اليمنية قالت قطر، ٢٠١٣، أنها ستتكفل بدفع ثلث مليار دولار لحل العقدة الجنوبية “المتقاعدين والأراضي في الجنوب”. ثم بقيت تتهرب من التزامها إلى أن توقفت عند المبلغ الذي أشرت إليه. يهرتل المسؤولون الصغار على صفحاتهم: اليمن الاتحادي، وهم لا يعرفون بالضبط ما الذي يريدون قوله.

في الجنوب لا نور في الصورة. في الأيام الماضية كنتُ على اتصال بأكثر من شخص في حضرموت، من الذين سبق أن قالوا إن الإمارات تمثل الخلاص الأخير، ووجدتهم يعصبون جام غضبهم على تلك الدولة أخيراً. أحدهم، وهذا ليس مزاحاً، قال لي: سيدفعوننا للبكاء على أيام القاعدة. ولكي يزيل أي لبس قال لي: على الأقل كان في كهربه. الهاشميون في صنعاء يذهبون إلى صالونات العزاء أكثر من ذهابهم إلى المعارك. عبد الملك الحوثي وعبده ربه منصور هادي، هذان الرجلان فقط هما من يشعران بالرضا وبأن كل شيء على ما يُرام. ولا يوجد يمني آخر يشعر بالطمأنية وراحة البال سواهما. انهارت الكتابة كما انهارت القراءة في اليمن. جيل كامل خارج المدرسة، وأخطر من كل هذا ما سمعته من صحفي عاد من صنعاء: أفرغ الحوثيون العاصمة ممن يجيد القراء والكتابة.

أمام هذه اللوحة الضارية والهادرة، ما الذي ستكتبه الليلة؟

م.غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version